مع أن ابن الصلاح قبله لم يفرق بين (المنكر) و (الشاذ) (1)!
بل والحافظ نفسه يعترف بعدم انضباط هذا التعريف في استخدامات المحدثين، وأنهم يطلقونهما على مدلولات أوسع مما ضيقها فيها الحافظ (2).
ومما سبق ذكره، ويعرفه الحافظ، أن الإمام أحمد والنسائي يطلقان النكارة على مطلق التفرد (3). وقد سبق الكلام عن خطأ إغفال هذا الاستعمال في شرح مصطلح (المنكر) (4)، فضلاً عن غيره من استعمالاته واستعمالات (الشاذ).
ثم إن الحاكم أبا عبد الله، وهو من أهل الاصطلاح، عرف (الشاذ)، وضرب
له أمثلة. فلم لم يلتزم الحافظ تعريفه (5)؟!
وأيضاً فقد عرف (المنكر) الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون بن روح الرديجي (ت 301هـ)، وهو من أهل الاصطلاح. فبأي حق يخالفه الحافظ (6)؟!
أما دعوى أن مقابل (الشاذ) (المحفوظ)، وأن مقابل (المنكر) (المعروف)، كذا قسمةً باتة= فأجزم أنها من كيس الحافظ، وانه لم يسبق إليها، ولا هناك ما يدل عليها!!!
وكتب العلل مليئة بإطلاق (المحفوظ) و (المعروف) دون التفات إلى هذا التقسيم، أو اعتباره (7)!!
وقد نبه إلى ذلك ابن قطلوبغا في حاشيته على (نزهة)!
قال ابن قطلوبغا عند تقسيم الحافظ وتعريفه لـ (المنكر) و (الشاذ) وما يقابلهما: ((وما ذكره في توجيهه ليس على حد ما عند القوم)) (8).
وقال ابن قطلوبغا أيضاً معلقاً على قول الحافظ ((وقد غفل من سوى بينهما))، قال: ((قد أطلقوا في غير موضع (النكارة) على رواية الثقة مخالفاً لغيره، من ذلك: حديث نزع الخاتم (9)، حيث قال أبو داود: ((هذا حديث منكر)) (10)، مع أنه من رواية همام بن يحيى، وهو ثقة احتج به أهل الصحيح. وفي عبارة النسائي، ما يفيد ـ في هذا الحديث بعينه ـ أنه (أي المنكر) يقابل (المحفوظ) (11). وكأن (المحفوظ) و (المعروف) ليسا بنوعين حقيقيين، تحتهما أفراد مخصوصة عندهم، وإنما هي ألفاظ تستعمل في التضعيف، فجعلها المؤلف أنواعاً، فلم توافق ما وقع عندهم)) (12).
فانظر إلى هذا (الجديد) و (التطوير) لمعاني المصطلحات، وتنبه إلى نتائج ذلك وأخطاره!!
ثم بعد ذلك في (النزهة)، عند الكلام عن الأحاديث المقبولة المتعارضة، يقول الحافظ: ((فإن أمكن الجمع، فهو النوع المسمى (مختلف الحديث) ... )) (1).
فقصر الحافظ (مختلف الحديث) في: (الحديث المقبول الذي عارضه مثله معارضةً ظاهريةً وأمكن الجمع)، كذا بقيد إمكان الجمع، كما هو واضح في كلامه.
أما ابن الصلاح قبله، فذكر في نوع (معرفة مختلف الحديث): ما أمكن فيه الجمع، وما لم يمكن مما قيل فيه بالنسخ أو بالترجيح؛ وهذا كله في (مختلف الحديث) (2)!
وهذا أيضاً هو صريح مقال وفعال الإمام الشافعي في كتابه (اختلاف الحديث) (3).
ومثله ابن قتيبة (أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276هـ)، في كتابه (تأويل مختلف الحديث) (4).
أما استاذي الدكتور أسامة بن عبد الله الخياط في كتابه (مختلف الحديث)، فتوسط بين الحافظ وغيره، حيث مال إلى أن (مختلف الحديث) شامل لما أمكن فيه الجمع أو الترجيح، دون النسخ (5).
على أني أعلن أن (مختلف الحديث) ليس من مصطلحات أقسام الحديث، التي كان يعبر بها عن حال المروي كـ (الصحيح) و (الضعيف) ونحوهما. وإنما (مختلف الحديث) اسم لمصنفات في شرح أحاديث شملتها صفة واحدة، هي: وقوع اختلاف أو تناقض بينهما وبين غيرها من كتاب أو سنة أو عقل صحيح، لتزيل إشكال ذلك الاختلاف وحرج ذاك التناقض.
ومثل (مختلف الحديث) في ذلك مثل (المتفق والمفترق) و (المؤتلف والمختلف) و (المتشابه في الرسم) والمزيد في متصل الأسانيد)، وغيرها، من أسماء المصنفات، التي أدخلها ابن الصلاح في أنواع كتابه، فتطور الأمر بعده، فظنت أنها مصطلحات متداولة كـ (الصحيح) و (الضعيف).
ثم ننتقل إلى مسألة أخرى، قد أشبعتها بحثاً في نحو سبع مجلدات! إنها مسألة (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس).
¥