وغاية ما يمكن أن يدعى في الدفاع عن ابن الصلاح (مع أنه ليس في حاجةٍ إلى دفاع، لأنه معذور مأجور إن شاء الله تعالى!)، أن يقال: إن القول الذي نقل ابن الصلاح أنه قول كثير من أهل الحديث، يخالفه قول الأكثرين من أهل الحديث، ولذلك صوبه ابن الصلاح.
فأقول: هذه دعوى! فالبينة البينة؟!
وعلى افتراض صحة هذه الدعوى، فلا يحق ـ مع ذلك ـ لأحدٍ أن يخطىء الكثيرين من أهل الحديث، وأن يصوب قول الأكثرين منهم فقط؛ أولاً: لأن أولئك كثيرون، وليسوا قليلين لتكون أقوالهم وإطلاقاتهم شاذةً غير مغتبرة. وثانياً: لأن المصطلح لا مشاحة فيه، فالواجب علي فهمه على ما هو عليه عند: (الكثرين) و (الأكثرين)، إن صح ذلك الافتراض!
كيف إذا علمت أن من أولئك (الكثرين) الذين أطلقوا لفظ (النكارة) على (التفرد): الإمام أحمد، والنسائي (1)؟!! وهما من هما: إمامةً في السنة، واعتماداً عليهما وعلى أقوالهما في علوم الحديث المبثوثة المنتشرة في أصول ومصنفات السنة.
وبهذا المثال وسابقه نستدل على محاولة ابن الصلاح تطوير المصطلح، وأنه كان معتنقاً لـ (فكرة تطوير المصطلحات)!
ومع هذه المؤخذات على كتاب ابن الصلاح، إلا أن قرب عهد ابن الصلاح من أسلاف المحدثين (بالنسبة إلى من جاء بعده)، ورأيه المباشر في علم المنطق، واعتماده على كتب الخطيب البغدادي؛ كل ذلك قلص من اتساع الخرق بين معاني المصطلحات الحديثية والمعاني التي ذكرها لها ابن الصلاح. فلم يزل كتابه ـ في غالبه ـ رابطاً حسناً ومهماً بين المتقدمين والمتأخرين، وقائداً أميناً إلى فهم عبارات القوم وألقاب علمهم.
أما بعد ابن الصلاح: فقد أصبح كتابه هماً للاحقين: شرحاً، واختصاراً، ونظماً، وانتقاداً، وانتصاراً، متأثرين بمنهجه، سائرين على دربه. ولئن كان تأخر الزمان كافياً للدلالة على زيادة ضعف تلقي العلوم النقلية، وعلى تعمق أثر العلوم العقلية عليها أكثر من ذي قبل = فإن ظهور بعض المؤخذات المنهجية على كتاب ابن الصلاح، جعلها مناهج سليمةً صحيحةً عند من جاء بعده، لإمامة ابن الصلاح وإمامة كتابه في علوم الحديث. مما خطا بعلوم الحديث خطوةً أخرى إضافية إلى التأثر بالعلوم الأجنبية عنها، وبالتوسع في تلك المؤخذات المنهجية خلال تفسير وتقعيد مصطلح الحديث وأصوله.
وليس أدل على ذلك من انتقادهم لابن الصلاح وغيره ممن تكلم في علوم الحديث قبله، بعدم انضباط تعريفه على قواعد الأصوليين، وعدم تحريرها على صناعة المناطقة!!
فهذا تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري المعروف بابن دقيق العيد (ت 702هـ)، فيك كتابه (الاقتراح في بيان الاصطلاح)، ينتقد تعريف ابن الصلاح للحديث الصحيح، فيقول: ((وزاد أصحاب الحديث: أن لا يكون شاذاً ولا معللاً، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث، لا تجري على أصول الفقهاء .. (إلى أن قال:) لن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً)) (1).
وغاب عن ابن دقيق العيد هنا، أن الكلام عن مصطلح الحديث عند أهل الحديث!! ثم لا وزن لغير أهل الحديث إذا خالفوا أهله فيه!!!
وانتقد ابن دقيق العيد أيضاً الإمام الخطابي في تعريفه للحديث الحسن، فقال: ((وهذه عبارة ليس فيها كبير تلخيص، ولا هي على صناعة الحدود والتعاريف)) (2).
وبانظر السابق نفسه، بل وبالفظ نفسه أيضاً، انتقد الإمام الذهبي (ت 748هـ) تعريف الخطابي، فقال في (الموقضة): ((وهذه عبارة ليست على صناعة الحدود والتعريفات، إذ ينطبق ذلك عليه)) (3).
والغريب أن كلاً من ابن دقيق العيد الذهبي ممن نصر القول بدخول الحسن في الصحيح، وأن كل صحيحٍ حسن، وليس كل حسن صحيح (4).
وذلك فيه بعض النقاقض، والذي قادهما إليه التزام صناعة الحدود المنطقية!!
¥