[ثانياً] تأويل قولهم فلان حجَّة. قد بان لى من معاني الحجَّة عندهم:
(1) الذى ثبتت إمامته، وذاعت شهرته، وعرف فضله. وهذا معنىً واسع، ولكنه غير شائع الاستعمال، وربما يستعمله بعض المتساهلين من أئمة التعديل والتزكية، كابن سعد. وهو واقع بكثرة فى تراجم المتأخرين كالحافظ الذهبى فى كتابيه ((سير الأعلام)) و ((تذكرة الحفاظ)). قال ابن سعد: كان الحسن البصرى جامعا عالما رفيعا ثقة حجة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا. وقال:كان أيوب السختيانى ثقة ثبتا في الحديث جامعا كثير العلم حجة عدلا. وقال الذهبى: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق الإمام القدوة الحافظ الحجة عالم وقته بالمدينة. وقال: عبد الرحمن بن أبي نعم الإمام الحجة القدوة الرباني أبو الحكم البجلي الكوفي. وهذا أكثر من أن يحصى.
(2) الحافظ الضابط المتقن. وهذا أشيع معانيه، وربما اقتصر عليه الأكثر. سئل يحيى بن معين عن محمد بن إسحاق بن يسار المطلبى فقال: ثقة وليس بحجة. وأصل ذلك أنه سئل عنه وعن موسى بن عبيدة الربذي: أيهما أحب إليك؟، فقال هذا القول، وإنما ذهب إلى أن ابن إسحاق أمثل وأوثق من موسى بن عبيدة الربذي، وإن لم يكن ضابطاً متقناً كمالك وعبيد الله بن عمر فى المدنيين.
(3) الذى يُرجع إليه عند الاختلاف ويؤخذ بقوله، فهو كالقائم مقام الدليل والبرهان، أو الذى تدفع به الخصومة. قال أبو زرعة الدمشقي قلت ليحيى بن معين وذكرت له الحجة، فقلت له: محمد بن إسحاق منهم؟، فقال: كان ثقة، إنما الحجة عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس وذكر قوما آخرين. وهذا من ألطف المعانى وأخفاها، وإنما يستعمله المتشددون أمثال: عبد الرحمن بن مهدى، ويحيى بن سعيدٍ القطان، وابن معين، وأبى حاتم الرازى. وعليه يتنزل قول عثمان بن أبى شيبة، ومن طالع أحكامه على الرجال حكم من غير تردد أنه فى عدادهم، وإن وثق بعض الضعفاء.
(4) أن الحجة بالمعنى السابق، ولكن مقروناً براوٍ ما أكثر الثقة ملازمته والأخذ عنه، فكان الأضبط والأوثق والأحفظ لحديثه دون سائر أصحابه. وذلك شبيهٌ بقولهم:
الثورى حجة فى الأعمش على سائر أصحابه.
مالك حجة فى الزهرى على سائر أصحابه.
ابن عيينة حجة فى عمرو ين دينار على سائر أصحابه.
حماد بن سلمة حجة فى ثابت البنانى على سائر أصحابه.
شعبة حجة فى قتادة على سائر أصحابه.
إسرائيل حجة فى أبى إسحاق على سائر أصحابه.
الأوزاعى حجة فى يحيى بن أبى كثير على سائر أصحابه.
قال أبو حاتم الرازى: حماد بن سلمة في ثابتٍ وعلي بن زيد أحبّ إليَّ من همام، وهو أضبط الناس وأعلمهم بحديثهما، بيَّن خطأ الناس فى حديثهما. وقال يحيى بن معين: من خالف حماد بن سلمة في ثابتٍ فالقول قول حماد، وحماد أعلم الناس بثابتٍ.
ونزيدك إيضاحاً وبياناً، لهذا المعنى، بذكر هذا المثال:
قال أبو داود (5125): حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَعْلَمْتَهُ؟))، قَالَ: لا، قَالَ: ((أَعْلِمْهُ))، قَالَ فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ.
وأخرجه كذلك أحمد (3/ 156،150)، وأبو القاسم البغوى ((مسند ابن الجعد)) (3193)، والحاكم (4/ 171)، والبيهقى ((شعب الإيمان)) (6/ 488/9006) من طرق عن مبارك بن فضالة بإسناده نحوه.
وتابعه عن ثابت البنانى: الحسين بن واقد المروزى، وعبد الله بن الزبير الباهلى، وعمارة بن زاذان الصيدلانى.
¥