والكفر من الفسق قال تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} (18) سورة السجدة إلى قوله ?وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النارالذي كنتم به تكذبون? السجدة: 18 - 20.
وقال سبحانه: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلى الفاسقون) البقرة:99.
والآيات في ذلك كثيرة.
وتبادر المسلم من نحو قولك:" رأيت رجلاً فاسقاً" من العرف الحادث بعد صدر الإسلام، وسببه أنها صار الغالب إذا ذكر الكافر أن يذكر بلفظه الخاص به " كافر " أو ما يعطي ذلك مثل: يهودي، ونصراني، ومجوسي، وإذا ذكر المسلم الذي ليس بعدل أن يذكر بنحو: فاسق، وفاجر، ومثل هذا العرف لا يعتد به في فهم القرآن.
وغفل بعضهم عن هذا فظن أن دخول الكافر في الآية إنما هو من باب الفحوى، قال: لأنه أسوأ حالاً من الفاسق.
ونوقش في ذلك بأن الفسق مظنة التساهل في الكذب: إذ المانع من الكذب هو الخوف من الله عز وجل ومن عيب الناس، ومرتكب الكبيرة قد دل بارتكابه إياها على ضعف الخوف من نفسه.
وأما الكافر فقد يكون عدلاً في دينه بأن يكون يحسب أنه على الدين الحق، ويحافظ على حدود ذلك الدين، ويخاف الله عز وجل والناس بحسب ذلك.
أقول: في هذا نظر؛ فإن الحجة قد قامت على الكافر، فدل ذلك على كذبه في زعمه أنه يعتقد أن دينه حق.
والكافر الذي بلغته دعوة الإسلام لا يخلو عن واحدة من ثلاثة أمور:
الأول: التقصير في البحث عن الدين الحق.
الثاني: الهوى الغالب.
الثالث: العناد
ولو برئ من هذه الثلاثة لأسلم، قال الله تبارك وتعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين). خاتمة العنكبوت:68 ـ 69
وقد اتفقوا على أن من كان مسلماً مخالطاً للمسلمين، ثم ارتكب كبيرة قد قامت الحجة بأنها كبيرة ـ كأن ترك صوم رمضان ـ فهو فاسق، فإن زاد على ذلك فزعم أنه لا حجة عنده على تحريم ما ارتكبه كان مرتداً، وهو في باب الأخبار أسوأ حالاً من المسلم المرتكب الكبيرة مع اعترافه بأنها كبيرة.
فإن قيل: إننا نجد من الكفار من يبالغ في تحري الصدق والأمانة حتى إن من يخبر حاله، ويتبع أخباره، قد يكون أوثق بخبره من خبر كثير من عدول المسلمين.
قلت: وكذلك في فساق المسلمين ممن يترك الصلاة المفروضة ـ مثلاً ـ من يكون حاله في إظهار تحري الصدق والأمانة كحال الكافر المذكور.
وحل الإشكال من أوجه:
الوجه الأول: أن الظاهر من حال الكافر والفاسق الذي يعرف بتحري الصدق أن المانع له من الكذب الخوف من الناس، وحبُّ السمعة الحسنة بينهم، وعلى هذا فهذا المانع إنما يؤثر في الأخبار التي يخاف من اطلاع الناس على جلية الحال فيها، فلا يؤمن ممن هذا حاله أن يكذب إذا ظن أنه لا يوقف على كذبه.
فالعدل في خبر هذا أن يتثبت فيه، فإن ثبت بدليل موثوق به أنه صدق عمل به لذلك الدليل، وإلا اطرح لعدم الوثوق به حينئذ.
الوجه الثاني: أنه لا يستنكر من الشارع أن لا يعتد بصدق مثل هذا؛ لأنه ليس بصدق يحمده عليه الشارع؛ إذ الباعث عليه هو رئاء الناس كما علمت.
الوجه الثالث: أنه لو فرض أنه يحصل من الوثوق بخبره كما يحصل بخبر المسلم العدل، فقد يكون الشارع جعل كفر هذا الرجل أو فسقه مانعاً من قبول خبره في الدين زجراً له، وعوناً له على نفسه، لعله يستنكف من تلك الحال فيتوب، ورفعاً لتلك المرتبة العليَّة ـ وهي أن يُدان بخبر الرجل ـ عمن لا يستحقها.
الوجه الرابع: أن السبب الباعث على الحكم قد يكون خفيّاً، أو غير منضبط، فإذا كان هكذا فلو كلَّف الشارع الناس ببناء الحكم عليه كان في ذلك مفاسد منها: أنه من باب التكليف بما لا يطاق، ومنها: أنه فتح لباب اتباع الهوى، ولكثرة الاختلاف واتهام الحكام، وغير ذلك.
فاقتضت الحكمة أن يبني الشارع الحكم على أمر آخر يشتمل على ذلك السبب غالباً، ثم تكفل الله عز وجل بتطبيق العدل بقضائه وقدره.
¥