وأما البلوغ فهو حد التكليف، ولا يتحقق الخوف من الله عز وجل والخوف من الناس إلا بعده؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم فلا يخاف الله عز وجل، وكذلك لا يخاف الناس؛ لأنهم إن ظهروا على كذب منه قالوا: صبي، ولعله لو قد بلغ وتم عقله لتحرز، ومع هذا فلا تكاد تدعو الحاجة إلى رواية الصبي؛ لأنه إن روى فالغالب أن المروي عنه حي فيراجع، فإن كان قد مات فالغالب ـ إن كان الصبي صادقاً ـ أن يكون غيره ممن هو أكبر قد سمع من ذلك المخبر أو غيره، فإن اتفق أن لا يوجد ذلك الخبر إلا عند ذلك الصبي فمثل هذا الخبر لا يوثق به.
هذا وعامة الأدلة على شرع العمل بخبر الواحد موردها في البالغين.
الباب الثالث: في العقل
وأما العقل فالأمر فيه أظهر إذ المراد هنا أن لا يكون مجنوناً، فأما المغفل فيأتي الكلام فيه في الباب الخامس ـ إن شاء الله تعالى.
الباب الرابع: في العدالة
وأما العدالة فقد قال الله عز وجل:? إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا? الحجرات: 6.
وقال سبحانه:? وأشهدوا ذوي عدل منكم? الطلاق:2.
وقال تعالى:?يحكم به ذوا عدل منكم? المائدة: 95.
والشهادة والحكم كالإخبار، والأصل اتحاد الحكم فيهما وفي الرواية إلا ما قام الدليل على الإفتراق فيه.
وقد تقدم في الكلام على الشرط الأول ما يتعلق بهذا فلا حاجة إلى إعادته.
هذا والعدالة مصدر عدل الرجل صار عادلاً، والعدل في الحكم: الإنصاف فيه: كأنه من عدل الغرارتين على البعير مثلاً، أي التسوية بينهما حتى تكونا متعادلتين، فيبقى الحمل معتدلاً مستقيماً لا ميل فيه، فالعدل في الحكم إذاً: أن ننظر ميل المائل عن الحق فيرده إليه، وحاصله أن يتحرى الحق فيقضي به.
فالعدالة إذاً هي الاستقامة على حدود الشرع، والفسقُ هو الخروج عن هذه الصفة، قالوا: وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها.
هذا وقد تقرر في أقوال أهل العلم سلفاً وخلفاً أنّ المعصية الصغيرة لا تقتضي الخروج عن العدالة، وقد قال الله تبارك وتعالى:? ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم إن ربك واسع المغفرة? النجم: 31 ـ 32.
فها هنا احتمالان:
الأول: أن يقال: إن الفسوق يختص بالخرج الفاحش، فلا يُسمّى ارتكابُ الصغيرة فسوقاً وإن كان عصياناً، وقد يُستدل على هذا بقول الله تبارك وتعالى ـ بعد آية ?ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق? الحجرات: 6 ـ ?وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ? الحجرات: 7.
فكما أن الفسوق أعمُّ من الكفر؛ لأن من الفسوق ما هو دون الكفر، فكذلك يظهر أن العصيان أعمّ من الفسوق ما هو دون الكفر، فكذلك يظهر أن العصيان أعم من الف سوق وأن من العصيان ما هو دون الفسوق.
الإحتمال الثاني: أن يقال: الفسوق من الأشياء التي تتفاوت كالعلم مثلاً، فكما لا يوصف من علم مسأله أو مسألتين بأنه عالم على الاطلاق، فكذلك لا يوصف من فسق بصغيرة أو صغيرتين بأنه فاسق على الإطلاق.
والآية الأولى وهي قوله تعالى:?إن جاءكم فاسقٌ? إنما بنيت على من هو فاسق لا على من وقع منه فسوق.
وقال الله عز وجل في سورة الحجرات في سياق الآيتين السابقتين وهي ?إن جاءكم فاسق? ?وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان?: ?ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ? الحجرات: 11.
وقال الله تبارك وتعالى:?الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج? البقرة: 197.
وقال سبحانه ? ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ? البقرة: 283.
¥