وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه، لكن أولئك الأفراد كانوا قليلاً كما يظهر من الآيات والأحاديث، وكما يعلم ذلك بدلالة المعقول؛ فإنهم لو كانوا هم الأكثر أو كثيراً لكانوا اظهروا كفرهم، ولم يحتاجوا إلى النفاق، ومع ذلك فقد كانوا معروفين عند النبي صلى الله عليه وسلم، إن لم يكن علم اليقين فالظن، قال الله عز وجل:? أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم? محمد: 29: 30.
وكانوا مع ذلك خائفين كما قال الله عز وجل فيهم:? يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون? المنافقون آية 4 وكانوا مع ذلك إلى نقص بالهلاك أو التوبة والإخلاص، والغالب على الظن أن من بقي منهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض أحد منهم لأن يذكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لخوفهم من المؤمنين، وعلمهم أن أحدهم لو أخبر بشيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكذب فيه لأنكره عليه المؤمنون وفضحوه بما كانوا يظنونه من نفاقه، أو لأعلمهم بنفاقه حذيفة أو غيره ممن كان قد أسرّ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين.
وأما الأعراب فقد قال الله عز وجل:?قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم ? الحجرات آية14.
والظاهر أن أهل هذه الآية آمنوا بعد ذلك أو غالبهم كما تقتضيه كلما " لما ".
وقد ذكر الله عز وجل فرقهم في سورة التوبة: 95: 105 فذكر أن منهم منافقين، ومنهم مؤمنون مخلصون، ومنهم مخلطون يرجى لهم الخير، وقال في آخر ذلك:?وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون?.
ثم ابتلاهم الله عز وجل بعد غزوة العسرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد أقوام من الأعراب فعرفهم المؤمنون حق المعرفة.
وأما الطلقاء من أهل مكة فلم يرتد منهم أحد بعده صلى الله عليه وسلم وقد شملتهم بعض الآيات المتقدمة كما يعلم بمراجعتها، وكذلك تشملهم بعض الأحاديث كالحديث المشهور " خير الناس قرني.ز "
وبالجملة فتعديل الله عز وجل ورسول ثابت للمهاجرين عامة، ولم يجيء ما يخصصه.
وأما الأنصار فالثناء عليهم عام، ولكن قد كان من الأوس والخزرج منافقون لكنهم قليل، ولم يحضر من المنافقين أحد بيعة العقبة، ولا شهد بدراً ولا أحد فإن كبيرهم اعتزل بهم، و الظاهر أنه لم يبايع تحت الشجرة أحد منهم، وقد قيل إنه كان هناك واحد منهم فلم يبايع وقد سمى.
وقول الله عز وجل في ذكر تخلفهم عن غزوة تبوك:?ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين? التوبة آية 46: 47.
يقتضي أنه لم يشهد تبوك أحد منهم، ولكن روى أن اثنى عشر منهم اعترضوا النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك وأرادوا ترديته من العقبة.
وقد يقال ـ إن صح الخبر ـ لعل هؤلاء لم يشهدوا تبوك، وإنما ترصدوا قدومه صلى الله عليه وسلم من تبوك فالتقوه ببعض الطريق لما هموا به، ومع ذلك ففي الخبر أن حذيفة عرف هؤلاء.
هذا وقد سبق أن الظاهر أن من بق ي من المنافقين لم يرد عن أحد منهم شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الأعراب فقد تم امتحانهم بوفاته صلى الله عليه وسلم، فمن ثبتت منهم الإسلام فقد ثبتت عدالته، ومن ارتد فقد زالت، فمن عاد بعد ذلك إلى الإسلام فيحتاج إلى عدالة جديدة.
وأما الطلقاء فقد شملتهم بعض الآيات كما عرفت، ولم تقع منهم ردة.
ولو اقتصر المخالف في المسألة على القول بأن من تأخر إسلامه وقلت صحبته يحتاج إلى البحث عنهم لكان لقوله وجه في الجملة، وأوجه من ذلك من كان من الأعراب، ويحتمل أنه ممن ارتد عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما من علم أنه ممن ارتد فالأمر فيه أظهر.
هذا وقد كان العرب يتحاشون من الكذب، وتأكد ذلك فيمن أسلم، وكان أحدهم ـ وإن رق دينه لا يبلغ به أن يجترئ على الكذب على الله ورسوله، وكانوا يرون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، وأنه إن اجترأ أحد على الكذب افتضح.
ولو قال قائل: إن الله تبارك وتعالى منع القوم من تعمد الكذب على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمقتضى ضمانه بحفظ دينه ولا سيما مع إخباره بعدالتهم لما أبعد.
ومن تدبر الأحاديث المروية عمن يمكن أن يتكلم فيه من الطلقاء ونحوهم ظهر له صدق القوم، فإن المروي عن هؤلاء قليل، ولا تكاد تجد حديثاً يصح عن أحد منهم إلا وقد صح بلفظه أو معناه عن غيره من المهاجرين أو الأنصار، وقد كانت بين القوم إحن بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلو استساغ أحد منهم الكذب لاختلق أحاديث تقتضي ذم خصمه، ولم نجد من هذا شيئاً صحيحاً صريحاً.
وفوق هذا كله فأهل السنة لم يدعوا عصمة القوم، بل غاية ما ادعوه أنه ثبت لهم أصل العدالة ثم لم يثبت ما يزيلها، و المخالف يزعم أنه قد ثبت عنده في حق بعضهم ما يزيل العدالة فانحصر الخلاف في تلك الأمور التي زعمها، فإذا أثبت أهل السنة أنها لم تصح وأن ما صح منها لا يقتضي زوال العدالة استتب الأمر.
فأما من ثبتت شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالمغفرة والجنة فقد تضمن ذلك تعديلهم أولاً وآخراً. و الله الموفق.
تنبيه: أما الخطأ فقد وقع من بعض الصحابة كقول ابن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وغير ذلك مما يعرف بتتبع كتب السنة.
مسئلة: قال الخطيب في كفاية ص53:" ومن الطريق إلى معرفة كونه صحابياً تظاهر الأخبار بذلك، وقد يحكم بأنه صحابي إذا كان ثقة أميناً مقبول القول إذا قال صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وكثر لقائي له .. وإذا قال: أنا صحابي ولم نجد عن الصحابة رد قوله ولاما يعارضه .. وجب إثباته صحابياً حكماً بقوله لذلك، أو قول آحاد الصحابة " أقول: فعرف من هذا أن من لم تثبت صحبته إلا بقوله حكمه حكم التابعين في البحث عن عدالته، لأنها لا تثبت صحبته حتى تثبت عدالته.
¥