نعم الأشبه بدقة نظر البخاري رحمه الله تعالى، ولطف استنباطه، إذ فهم من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمادح " قطعت عنق صاحبك" ثناء على الممدوح؛ فإن قطع العنق كناية عن الإهلاك، والمعنى كما قال الغزالي " إن الآفة على الممدوح أنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبراً أو إعجاباً، أو يتكل على ما شهره به المادح، فيفتر عن العمل؛ لأن الذي يستمر على العمل غالباً هو الذي يعد نفسه مقصراً" ذكره في الفتح.
فكأن البخاري رحمه الله فهم أن المدح إنما يقطع عنق من له عنق والكافر والفاسق مقطوعة أعناقهما، ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم " قطعت عنق صاحبك " دلالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قضى بأن للممدوح عنقاً يخشى أن يقطعها المادح بمدحه، والعنق هي العدالة فقد تضمن ذلك القضاء بأن الممدوح عدل، وهذا على لطفه لا يكفي للحجة وفيه بعد.
ذلك أنه ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف الممدوح، حتى يقال إنه إنما أثبت له سلامة العنق بثناء ذلك المادح.
وأما المسلك الثاني: فالأقرب أن تزكية الشاهد شهادة،وأما تزكية المخبر فإن كانت ممن جاوره أو صحبه مدة فالظاهر أنها خبر، وإن كانت ممن تأخر عليه كتعديل الإمام أحمد لبعض التابعين فقد يقال إنها حكم، لأن أئمة هذا الفن في معنى المنصوبين من الشارع أو من جماعة الأمه لبيان أحوال الرواة ورواياتهم، وقد يقال إنها فتوى لأنها خبر عما أدى إليه النظر والاجتهاد، وهو إن لم يكن حكماً شرعياً. فتبنى عليه أحكام شرعية كما لا يخفى.
والأقرب أنها خبراً أيضاً.
وأما المسلك الثالث: فقد شرحت في رسالة الإحتجاج بخبر الواحد بعض ما ظهر لي من الحكمة في أنه لا يكفي في الزنا أقل من أربعة شهود، وفي الدماء وغيرها بشاهدين، و في الأموال بشاهدين، ويمين المدعى عند قوم، والإكتفاء في الخبر بواحد والذي يظهر من ذلك أن تعديل الشاهد كالشهادة بالدماء ونحوها في أنه لا يكفي إلا اثنان، وأن تعديل المخبر كالخبر.
وعلى كل حال فخبر من عدله اثنان أرجح من خبر من لم يعدله إلا واحد، وإن قامت الحجة بكل منهما، و الله أعلم.
هذا كله حال المعدل، فأما الجارح. فشرطه أن يكون عدلاً، عارفاً بما يوجب الجرح إن جرح ولم يفسر وقلنا بقبوله. واشترط بعضهم أيضاً أن لا يكون بينه وبين المجروح عداوة دنيوية شديدة، فإنها ربما أوقعت في التحامل ولا سيما إذا كان الجرح غير مفسر، وزاد غيرهم العداوة الدينية. كما يقع بين المختلفين في العقائد، وقد بسطت القول في ذلك في () والكلام في عدد الجارح كما مر في المعدل.
ـ[عبدالرحمن الفقيه.]ــــــــ[05 - 07 - 04, 03:21 م]ـ
فرع
تقدم أن من شرط المعدل أن يكون ذا خبرة بمن يعد له وذكروا أن الخبرة تحصل بالجوار أو الصحبة أو المعاملة ولا شك أنه لا يكفي جوار يوم أو يومين وكذلك الصحبة وكذا المعاملة لا يكفي فيها أن يكون قد اشترى منه سلعة وسلعتين بل لابد من طول الجوار أو الصحبة أو المعاملة مدة يغلب على الظن حصول الخبرة فيها و المدار في ذلك على غلبة ظن المزكي الفطن العارف بطباع الناس وأغراضهم.
واشتراط الخبرة بهذا التفصيل في مزكي الشاهد لا إشكال فيه، وإنما الإشكال في تزكية الرواة، فإن ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام في الرواة المتقدمين غالباً من كلام من لم يدركهم بل ربما كان بينه وبينهم نحو ثلاثمائة سنة، هذا الدار قطني المولود سنة 306 يتكلم في التابعين فيوثق ويضعف، قد يتوهم من لا خبرة له أن كلام المحدث فيمن لم يدركه إنما يعتمد النقل عمن أدركه فالمتأخر ناقل فقط أو حاكم بما ثبت عنده بالنقل، وهذا الحصر باطل، بل إذا كان هناك نقل فإن المتأخر يذكره، فإن لم يذكره مرة ذكره أخرى أو ذكره غيره والغالب فيما يقتصرون فيه على الحكم بقولهم "ثقه" أو "ضعيف" أو غير ذلك إنما هو اجتهاد منهم، سواء أكان هناك نقل يوافق ذاك الحكم أم لا وكثيراً ما يكون هناك نقل يخالف ذاك الحكم، واعتمادهم في اجتهادهم على طرق:
الطريقة الأولى: النظر فيمن روى عن الرجل فإن لم يرو عنه إلا بعض المتهمين كابن الكلبي والهيثم بن عدي طرحوه ولم يشتغلوا به، وإن كان قد روى عنه بعض أهل الصدق نظروا في حال هذا الصدوق فيكون له واحدة من أحوال:
¥