وفي هذا دلالة ما على أن ثناء الواحد لا يكفي لبناء الحكم بوجوب الجنة، فأما وجوب الجنة في نفس الأمر فقد ظهر مما تقدم أنها تجب لمن لم يظهر منه إلا الخير وإن لم يثن عليه أحد، ففائدة الشهادة على هذا إنما هي لحكم من يسمعها ممن لم يخبر حال الميت بمقتضاها؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم " وجبت ".
وقد يحتمل أن الشهادة تنفع، فمن لم يشهدوا له في الدنيا، وكان في نفسه لم يظهر للناس منه إلا الخير، فيحتاج في الآخرة إلى أن يسأله الله عز وجل، كما في حديث ابن عمر المتقدم ثم يقول له:" اني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم" ومن شهدوا له لم يحتج إلى هذا السؤال والعلم عند الله عز وجل.
وقد يقال: إن قول عمر " ثم لم نسأله عن الواحد " يشعر بأنه لم يفهم من الحديث أن الواحد لا يكفي، وأقول: إذا صح أن في الحديث إشارة إلى ذلك لم يضرها أن يتردد فيها الصحابي. لكن لقائل أن يقول: فسلمنا اشارة ما إلى أنه لا يكفي ثناء الواحد على الميت في الحكم له بالجنة، ولكن لا يلزم من هذا عدم الاكتفاء بتعديل الواحد للشاهد والمخبر، فإن الحكم للميت بالجنة لا ضرورة إليه ولا كبير حاجة. فإذا كان من أهل الجنة ولم يحكم له [الناس بأنه من أهلها] لم يترتب على ذلك مفسده بخلاف الشهادات والأخبار فإن الضرورة فيها قائمة وفي رد شهادة العدل وخبر الصادق مالا يخفى من المفاسد. فتأمل.
ومن النصوص ما وقع في قضية الإفك من سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسامة عن عائشة فأخبر أنه لا يعلم إلا خيراً وكذلك سأل بريره وسأل أيضاً زينب بنت جحش وكلتاهما أثنت خيراً وبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك قوله على المنبر " من يعذرني في رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيراً".
وفي الاحتجاج بهذا نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان هو نفسه خبيراً بعائشة وإنما ستظهر بسؤال غيره؛ لئلا يقول المنافقون: إن محبته إياها (والعياذ بالله) ..
وهذا والله أعلم من الحكمة في تأخير الله عز وجل إنزال برائتها.
وقال البخاري في الصحيح " باب إذا زكى رجلاً رجلاً كفاه " وقال أبو جميلة: وجدت منبوذاً فلما رآني عمر قال: عسى الغوير أبؤساً كأنه يتهمني.
قال عريفي: إنه رجل صالح قال: كذلك، اذهب وعلينا نفقته. وهذا الأثر أخرجه مالك في الموطأ وفيه بعد قوله " كذلك " قال نعم. فقال عمر: اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته والحجة فيه أن عمر قبل تعديل العريف وحده وبنى على ذلك تصديق أبي جميلة في أن ذلك الطفل كان منبوذاً، وأقره في يده، ولا يقر اللقيط إلا في يد عدل، وحكم له بولائه، وأنفق عليه من بيت المال، وقد أجيب على هذا بأنه مذهب لعمر مع أن أبا جميلة إما صحابي وإما من كبار التابعين، فلا يلزم من الاكتفاء في تعديله بواحد أن يكتفي بذلك فيمن بعد ذلك، وهذا الجواب ضعيف، والظاهر أن هذا مذهب عمر فإن لم يكن في النصوص ما يخالفه ولا نقل عن الصحابة ما يحالفه صح التمسك به.
ثم ذكر البخاري في الباب حديث أبي بكرة " أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال ويلك قطعت عنق صاحبك مراراً " ثم قال: من كان منكم مادحاً أخاه لا محاله فليقل: أحسب فلاناً، والله حسيبه؛ ولا أزكى على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه ".
قال ابن حجر في الفتح: " ووجه احتجاجه بحديث أبي بكرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد؛ لأنه لم يعب عليه إلا الإسراف والتغالي في المدح، واعترضه ابن المنير بأن هذا القدر كاف في قبول تزكيته، وأما اعتبار النصاب فمسكوت عنه، وجوابه أن البخاري جرى على قاعدته بأن النصاب لو كان شرطاً لذكر، إذ لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة ".
أقول لا يخفى حال هذا الجواب فإنه ليس في الحديث أن الممدوح شهد أو أخبر ولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنى على مدح المادح حكماً يحتاج فيه إلى عدالة الممدوح، وليس هناك حاجة لبيان نصاب التعديل.
¥