واسمع هذه الحكاية العجيبة عَنْ ورع الإمام النسائي رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ أَبُو طَالِبٍ أَحْمَدُ بنُ نَصْرٍ الحَافِظُ: مَنْ يَصْبُرُ عَلَى مَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ؟! عِنْدَهُ حَدِيْثُ ابْنِ لُهِيْعَةَ تَرْجَمَةً - يَعْنِي: عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ لُهِيْعَةَ - قَالَ: فَمَا حَدَّثَ بِهَا.
فرحمة الله على هؤلاء الذين بموتهم، مات الورع، ودُرِسَت السنن، وقام سوق البدع يبيع فيه أرباب التجارات الكاسدة.
ومن أسباب ذَلِكَ غياب القدوة التي تهذب نفوس هؤلاء الشباب، حتى يرعوي من لا خلاق له،
فكانت هيبة الشيخ في القديم تمنعهم حتى من الرد عليه – وإن أخطأ -، وكان المحدث يقطع حديثه إذا رفع أحدهم صوته أو تبسم، وكان الحديث عَنْ تأديب الطلاب بالزجر والضرب والهجر سامر الناس في مجالسهم، وانظر إلى هَذَا الأنموذج من نماذج تأديب الصغار،
فقد اجتَازَ أَبُو القَاسِمِ البَغَوِيُّ يوماً بِنَهْرِ طَابَقٍ عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ، فَسَمِعَ صَوْتَ مُسْتَمْلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟
فَقَالُوا: ابْنُ صَاعِدٍ.
قَالَ: ذَاكَ الصَّبِيُّ؟
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: وَاللهِ لاَ أَبرَحُ حَتَّى أُملِيَ هَا هُنَا.
فَصَعَدَ دَكَّةً، وَجَلَسَ، وَرَآهُ أَصْحَابُ الحَدِيْثِ، فَقَامُوا، وَتَرَكُوا ابْنَ صَاعِدٍ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ المُحَدِّثُونَ، وَحَدَّثَنَا طَالُوْتُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ المُحَدِّثُونَ، وَحَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ.
فَأَملَى سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيْثاً عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ شَيْخاً، مَا بَقِيَ مَنْ يَرْوِي عَنْهُم سِوَاهُ.
قُلْتُ: فعل أبو القاسم هَذَا ليأدب ابن صاعد، وابن صاعد هو من هو، كَانَ إذا حدَّث كالسيل يهدر، يُرى لصوت ترتيله للحديث صواعق وبروق تصيب نياط القلوب.
ومن أسباب ذَلِكَ تعلق كثير من هؤلاء الشباب بإسناد الحديث وبطرقه، ويغضون طرف القلب ومسامع البصيرة عَنْ مراعاة ما فيه من الآداب والأحكام، فأنا أعرف كثيراً ممن سودوا أوراقاً – سموها زوراً وبهتاناً تأليفاً – تباع في الأسواق، وهم لا يفقهون شيئاً من فقه ما كتبوه، وليس لأحدهم نظر دائم في كتب السنة، و أيم الله لو حاكمته إلى حديث فوق الحديث الذي نقله لوجدت مأساة المآسي، ناهيك عَنْ البون الشاسع بينه وبين ما يدعي حمله، وقُلْ مثل هذا في علاقته بكتاب الله، فآن الأوان لهذه الأقلام الزائفة أن تقصف، ولهذه الفهوم السقيمة أن تُمَّرَضَ.
و أختم كلامي بما بدأت بِهِ أن المنهجية ما زالت سبيل المؤمنين الصادقين، وأن الأرض مازالت معمورة بهؤلاء المتقين العلماء العاملين، ولكن من أسف لا يسلمون - ولا تسلم أعراضهم – من مشغب - لم يصبر على طلب العلم فواق ناقة – يناطحهم بقرون مستعارة، فمن هنا نؤتى، فلو سكت هؤلاء وكفوا أيديهم؛ لظهرت مصابيح الهداية الربانية تضئ جنبات الأرض كسابق عهدها.
وأنا آسف للتطفل على مائدة جمعت هؤلاء المشايخ الكرام (المقرئ، خالد بن عمر، المسيطر، الدارقطني وغيرهم)، ولكنها حديث نفس جرى بِهِ القلم، وعارض لم أستطع دفعه سنح للخاطر الفاتر حال فراغ البال، وخواطر سمح بها الطبع القاصر مَعَ كثرة الأشغال، والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.
ـ[هشام جبر]ــــــــ[26 - 08 - 08, 07:35 ص]ـ
أحسن الله إليك شيخنا أبا حازم، ورزقنا التقوى والإخلاص ..... آمين
ـ[صالح الهميمي]ــــــــ[08 - 10 - 08, 09:14 م]ـ
جزاكم الله خيرا ونفع بكم ولكن معرفة العلل هو من شأن أولئك الأعلام الجاهبذة
ـ[أبو المنذر المنياوي]ــــــــ[15 - 10 - 08, 11:14 ص]ـ
جزاكم الله خيرا على هذا الموضوع القيم ...
سبب الإضطراب وعدم ثبات المنهج أن غالب المحققين لا أصول لهم ثابتة، والحل إنما هو بالدراسة النظرية العميقة قبل الشروع في التخريج.
فغالب من يعمل بالتخريج أو التحقيق يتابع أحكام غيره فينتقي حكم هذا مع حكم هذا وبحث هذا وبحث هذا فهذا يقوي ابن لعيعة عن العبادلة وهذا يضعفه مطلقا، وهذا يتعتبر توثيق ابن حبان وهذا لا تعتبره، وهكذا ...
وإن وسعنا الدائرة فسوف تجد أن هذا أيضا ينعكس على الترجيحات الفقهية ...
وهذا يؤكد عندي مبدأ طالما كنت انتصر له وهو أن دراسة علم الأصول (أصول الفقه وأصول الحديث وأصول الدين) ينبغي أن تكون قبل دراسة علم الفروع (الترجيحات الفقهية والحكم على الأحاديث)، وكا يقال من ثبت نما.
والله المستعان ...