تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم يدلل على صحة هذا المنهج بعقد مقارنة بين الأصول الشرعية والأصول العقلية فيقول: "إن الكتاب والسنة والإجماع، أصل في الأحكام الشرعيات، كما أن علم الضرورة البديهيات أصل في العلوم العقليات، فكما بني العلم العقلي على علم الضرورة، أو على ما يبنى على علم الضرورة هكذا أبدا من غير حصر بعدد، على ترتيب ونظام الأقرب على الأقرب، ولا يصح أن يبنى الأقرب على الأبعد، فكذلك العلوم السمعيات، تبنى على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أو على ما بني عليها، أو ما بني على ما بني عليها، بصحته هكذا أبدا إلى غير نهاية، على ترتيب ونظام، الأقرب على الأقرب ولا يصح بناء الأقرب على الأبعد"20.

ويوضح الشيخ محمد أبو زهرة المسألة بهذا السؤال والإجابة عنه فيقول: قد يقول قائل: كيف يتصور ذلك؟ فيقول: إن هناك قواعد مقررة ثابتة من مجموع النصوص، وعرفت على أنها نتائج مقررة ثابتة، وإن كانت لا ترجع إلى أصل معين، فإن هذه تعد أصلا لأقيسة تقاس عليها، فالأصل المعين يكون غير معروف. ولكنها مقررات شرعية يصح أن تكون أصلا بذاتها" ثم يقول: إنه من الناحية الفقهية لا نستطيع أن نوافق عليه، ولكنه من الأصول المالكية، لعل نظرية المصلحة المرسلة قد بنيت عليه.

ويرى الشيخ محمد أبو زهرة أن هذا المنهج -منهج القياس على الفرع- يعد معمولا به في تفسير القوانين الوضعية، فإن أحكام القضاة قد تبنى على أقيسة، واستخراج علل النصوص القانونية والبناء عليها، وإن هذه الأحكام قد تقررها محكمة النقض، فإذا قررتها تصير مبادئ قانونية يمكن القياس عليها، وتطبق على مقتضاها من غير نظر إلى أصلها من نصوص القانون، وإن ذلك منهاج قد اختص به المذهب المالكي الخصب"21.

رابعا: كذلك تتجلى خصوصية المذهب المالكي فيما عبروا عنه بالمصالح المرسلة أو الاستدلال المرسل الذي هو عبارة عن "كل مصلحة تكون من جنس المصالح التي يقررها الشارع الإسلامي بأن يكون فيها محافظة على النفس أو الدين أو النسل أو العقل أو المال، ولكن لم يشهد لها أصل خاص حتى تصلح قياسا، فإنها يؤخذ بها على أنها دليل قائم بذاته، وهذه هي التي تسمى مصلحة مرسلة أو استصلاحا"22.

أو بعبارة أخرى إن من المصالح "ما اعتبره الشارع أي وضع من الأحكام ما يوصل إليه، كالمحافظة على النفس والعقل ودفع الحرج والمشقة عن المكلفين، ومنها ما ألغاه أي وضع من الأحكام ما يدل على إهداره: كالمبالغة في التدين بالرهبانية، ومصلحة الجبان في عدم خوض المعركة، ومصلحة آكل الربا في زيادة ثروته، ومصلحة المريض الميئوس من شفائه، أو من ضاقت به سبل العيش في الموت ... ومنها ما لم يشهد الشارع باعتباره ولا بإلغائه"23.

ومعنى هذا أن الإمام مالكا كان ينطلق من قاعدة راسخة لديه طالما عبر عنها الأصوليون بعده بقولهم: "إن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى"24. لعل السر الكامن من ورائها هو أن الخطاب الشرعي إنما جاء للإرشاد والهداية ولم يأت أبدا لحشر الناس في قوالب ضيقة لا محيد عنها.

وأعتقد أن هذا هو الذي يناسب حقيقة الاستخلاف، إذ الاستخلاف ليس معناه تجريد الإنسان من أهم ما يميزه، وجعله مجرد منفذ لما يملى عليه، وليس معناه أيضا ترك الحبل على الغارب، بل معناه تحديد معالم له بقصد الهداية، تختلف وضوحا وخفاء، ولعل أبرز هذه المعالم التي نصبت على طريق الهداية هي:

أ. بيان المقاصد الكبرى أو المصالح التي ينبغي للمجتمع أن يستظل بظلها في مسعاه التشريعي والعمراني، وأعني بها: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، لتكون طريق البناء وطريق الوقاية من الهدم واضحة جلية.

ب. بيانه منهج الإعمار والتشريع المشخص في ثلاث رتب أو درجات هي: الضروريات أولا ثم الحاجيات ثم الكماليات. عن طريقه يتم "الوفاء بمطالب الحياة الإنسانية وإشباعها".

ج. بيان أن الوسائل المبلغة لهذه المقاصد وأعني بها الأحكام التي نص عليها الخطاب الشرعي أو استنبطت منه، ليست كلها ثابتة بل هي تابعة للمقاصد الشرعية، وقد عبر الأصوليون عن هذه الحقيقة بأساليب متنوعة منها:

- أن الأحكام تدور مع العلة أو مع المقصد وجودا وعدما.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير