وكان لهؤلاء أثر في بناء صرح الفقه المدني , وخلفت جهودهم العلمية ثروة عظيمة اختصها الفقه المدني , واستطاع بها أن يكون كيانا مستقلا متميزا عن غيره , ومبرزا عن فقه أهل الأمصار , يعتز به المدنيون , ويقتدي به الآخرون. حتى قال بعض علماء مكة: ((لم يزل شأننا متشابها , حتى خرج عطاء بن أبي رباح إلى المدينة فلما رجع إلينا استبان فضله علينا [3] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn3).
الفرع الثاني: انتهاء رئاسة الفقه المدني إلى مالك.
ورث الإمام مالك – رحمه الله – فقه الصحابة والتابعين , وتبولأ عرش مدرسة المدينة الفقهية , أهله لذلك علم غزير وفطنة وذكاء حتى صار أعلم معاصريه بتلك الثروة العلمية. قال ابن المديني: ((نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة ثم صار علمهم إلى أصحاب التصانيف , ولأهل المدينة مالك , وذكر أيضا: أن علم زيد بن ثابت ومن أخذ عنه من التابعين انتهى إلى مالك.
وانطلاقا من تلك الثروة العلمية أسس مالك منهج استدلاله , ودون ما كان محفوظا في الصدور جيلا بعد جيل وأودعه في موطئه بعد انتقاء وتمييز وتدقيق. واشتهر أمر مالك حتى غطى سواه , وصار رئيس أهل زمانه , حتى اشتهرت فيه القول المأثور ((أيفتى ومالك في المدينة)).
ومكث بهذه الرياسة العلمية مدة طويلة في المدينة المنورة والتي كانت بمثابة القلب والروح للعالم الإسلامي إلى أن توفي – رحمه الله – سنة 179ه.
وحسب مالك أنه حظي بأعظم ميراث ورثه كابرا عن كابر , وتلقاه من منابعه الصافية خالصا سائغا ورثه من بعده فاتصل عطاؤه , واستمر ثوابه , واستفاضت شهرته عبر القرون.
المبحث الثاني: مكانة الفقه المدني و صلة عمل أهل المدينة به
المطلب الأول:ما امتازت به المدينة عن غيلاها من الأمصار
لقد شهدت فجر التشريع الإسلامي وحظيت في تاريخه بمرحلة لم يحظ بها مصر من الأمصار وذلك ل:
1) اختصاصها بنزول معظم الأحكام فيها:
فلئن كانت دعائم العقيدة قد أرسيت بمكة, فقد كانت المدينة المكان الذي اختصه الله لتنزل جل أحكامه وكان الصحب الكرام بها هم الذين تولوا تطبيق هذه الأحكام.
وكانت الفترة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن وصل إليها وأسس مسجده, إلى أن اختاره الله إلى جواره ميدانا للعمل المتواصل في تطبيق تفاصيل الأحكام تطبيقا عمليا يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم , ويتابعه أصحابه, في كل ميدان من ميادين الحياة , في العبادات والمعاملات والجهاد والحدود والأقضية المختلفة حتى أكمل الله شريعته, وأتم نعمته, ورضي لعباده الإسلام ديننا.
2) صلة المجتمع المدني بالداعي صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك:
وبهذا امتاز المجتمع المدني عن أي مجتمع آخر طعّم بتلك اللبنات ,فأنه مهما بلغ التاثر بتك العناصر الوافدة عليه, فلا يمكن أن يبلغ ذلك المستوى الذي عاشت على أرضه تلك الدعوة, وسار على أرضهاصاحب تلك الدعوة ونشأ ذلك المجتمع تحت رعايته وعنايته وتوجيهه.وكانت النخبة من أصحابه رضوان الله عليهم أقرب الناس إليه, وأشدهم تأسيا بأحواله, واقتداء بآثاره, وترسما لخطاه, واتباعا لنهجه. فقد شاهدوه في مواطن كثيرة: قائدا, قاضيا, مشيرا, مستشيرا, معلما رحيما, يستشفون هديه في حركاته وسكناته, ويدركون رضاه وغضبه من ملامحه, فيسارعون في مرضاته, وهذه المواطن لها من القرآئن والملابسات آثار في حياة الناس, والنهج الذي يختارونه ويسيرون عليه.
وفي كل هذ الميادين, تتعهدهم العنايةالنبوية بالتوجيه, وتُعدهم إعدادا عمليا يمكنهم من مواجهة الحياة حين ينقطع وحي السماء.
هذا الإعداد قد استهدف منهجا يسير عليه المجتهد , مستعينا بملكته الاجتهادية أو بملكات الآخرين.
ففي الحالة الأولى: عندما لا يجد في القضية نصا من الكتاب والسنة.
وفي الحالة الثانية: عندما تخفى بعض الأمور, فيُتغلب عليها بالعقول مجتمعة, وتنكشف جوانبها المختلفة. وكان لهذا الإعداد ثمرات تمثلت في الطبقة التي أنتجها هذا الأعداد , وما اسهمت به من دور في سمو الفقه المدني هذه الطبقة من الصحابة والتابعين, كان للمدينة منهم أوفر نصيب , إدا قورنت بالأمصار الأخرى, وإذا قصرنا النظر على المشاهير منهم نجد أن:
¥