وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ الرِّبَا: عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كَانَ لَهُ قَوْلٌ وَكَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَالْمُضِيُّ إلَى قَوْلِهِ أَوْلَى، خُصُوصًا إذَا كَانَ إمَامًا، وَلِهَذَا مَنَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِهِ، لِأَثَرِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ: وَفِي مَذْهَبِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى ثُمَّ الْأَخِيرَةَ ثُمَّ الْوُسْطَى أَعَادَ الْوُسْطَى وَلَمْ يُعِدْ الْأُولَى، وَهُوَ دَلِيلٌ فِي قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ تَقْطِيعَ الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُجْزِئَ عَنْهُ، كَمَا فِي الْجَمْرَةِ.
انْتَهَى.
فَاسْتَدَلَّ بِفِعْلِ الصَّحَابِيِّ الْمُعْتَضَدِ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ، وَعَلَى الْغُسْلِ أَيْضًا، كَمَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ.
نَعَمْ، الْمُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ نَفْسَهُ حُجَّةٌ، فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِاعْتِبَارِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِيهِ، وَيُؤَوَّلُ حِينَئِذٍ هَذَا إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى انْفِرَادِهِ.
وَلِهَذَا حَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْقِيَاسِ، أَوْ فِي قَوْلِهِ، بَعْدَ أَنْ قَطَعَ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِجَوَابَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسَانِ، فَيَكُونُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ مَعَ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الْمُجَرَّدِ.
قَالَ: وَهَذَا كَالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ، فَإِنَّهُ اجْتَذَبَهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا يُشْبِهُ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا عَلِمَهُ، فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ فَمُمْتَنِعَةٌ.
وَهَذَا الَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ الْحَيَوَانِ أَنْ يُوجِبَ قِيَاسًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَيَوَانَ مَخْصُوصٌ بِمَا سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ يُغْتَذَى بِالصِّحَّةِ وَالسُّقُمِ وَيُخْفِي عُيُوبَهُ، صَارَ إلَى تَقْلِيدِ عُثْمَانَ مَعَ هَذَا الْقِيَاسِ.
وَالثَّانِي: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ: إنَّهُ لَا يَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ فَاسْتَحْسَنَ الْعِبَارَةَ فَقَالَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ مَعَهُ الْقِيَاسُ.
انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ فِي نَفْسِهِ حُجَّةٌ وَحْدَهُ؟ قِيلَ: اجْتَذَبَ الْمَسْأَلَةَ وَجْهَانِ مِنْ الْقِيَاسِ قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ، فَقَوِيَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ بِقَوْلِ عُثْمَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ الْقِيَاسَانِ عَنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كَانَ إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيَسْقُطَا، أَوْ يَصِحُّ أَحَدُهُمَا فَيَبْطُلُ الْآخَرُ.
وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَعَ الصَّحِيحِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ .. "أهـ
¥