وقال معاذ بن جبل , رضي الله عنه: يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم , وزلّة عالم , وجدال منافق بالقرآن. فسكتوا , فقال: أمّا العالم فإن اهتدى فلا تقلّدوه " [39].
يقول الإمام ابن عبد البر: " وإذا ثبت وصحّ أنّ العالم يخطئ ويزل , لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه " [40].
ويُعلّق الإمام الشنقيطي على كلام ابن عبد البر السابق: " وإنّما كان كذلك لأنّ من يقلّد العالم تقليدا أعمى يقلّده فيما زلّ فيه فيتقوّل على الله أنّ تلك الزلّة التي قلّد فيها العالم من دين الله , وأنّها ممّا امر الله بها رسوله " [41].
ومنها الأحاديث التي تبيّن فساد هذا القسم من التقليد ما أخرجه أنّ رسول , صلّى الله عليه وسلّم: " إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا , ينتزعه من الناس , ولكن يقبض العلم بقبض العلماء , فإذا لم يبق عالما اتّخذ الناس رؤوسا فسُئلوا فافتوا بغير علم , فضلّوا وأضلّوا " [42]. يقول الإمام ابن عبد البر معلّقا على الحديث: " هذا كلّه نفي للتقليد , وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده " [43].
القسم الثاني: التقليد المحمود.
وهو ما سوى الأنواع السابقة , وهو تقليد من لم تتوفّر فيه شروط الاجتهاد ولا يقدر على معرفة الحكم الشرعيّ بنفسه , ولا يبقى أمامه إلا أن يتّبع مجتهدا من المجتهدين وتقليده [44]. يقول الإمام الشنقيطيّ: " أمّا التقليد الجائز الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين , فهو تقليد العاميّ عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به , وهذا النوع من التقليد كان شائعا في زمن النبي , صلّى الله عليه وسلّم , ولا خلاف فيه " [45].
يقول الإمام ابن عبد البر بعد أن ذكر القسم الأوّل من أقسام التقليد وأقوال أهل العلم في ذمّه: " وهذا كلّه لغير العامّة , فإنّ العامّة لا بدّ لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها " إلى أن قال: " ولم يختلف العلماء أنّ العلماء عليها تقليد علمائها وأنّهم المرادون بقوله عز وجلّ: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وكذلك لم يختلف العلماء أنّ العامّة لا يجوز لها الفتيا , وذلك والله أعلم بجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحايل والتحريم والقول في العلم " [46].
ويقول الإمام ابن القيم بعد أن ذكر أنّ التقليد يُقسم إلى قسمين: " وإلى ما يجب المصير إليه , وإلى ما يسوغ من غير إيجاب " [47].
وهذا القسم من التقليد دلّ على جوازه الأدلّة الشرعيّة من القرآن والسنّة ومدحه العلماء وقالوا بجوازه , وهو الذي نقصده في بحثنا وسنثبت جوازه في المباحث القادمة.
المبحث الثالث: حكم التقليد في الأحكام الشرعيّة.
يرى جمهور العلماء أنّ التقليد في العقائد وأصول الدين لا يجوز , ولكنّهم اختلفوا في حكم التقليد في الأحكام الشرعيّة , فمنهم من منع التقليد مطلقا سواء كان المقلّد مجتهدا أو كان عامّيّا , وفي المقابل نجد أنّ من العلماء من أجاز التقليد للعامّي ومنع المجتهد من التقليد. وفي هذا المبحث سوف أتطرّق إلى أقوال العلماء وموقف الإمام ابن حزم في المسألة مبيّنا الأدلّة التي اعتمد عليها كلّ فريق , وذلك من خلال المطالب التالية:
المطلب الأوّل: المجيزون للتقليد وأدلّتهم.
المطلب الثاني: المانعون للتقليد وأدلّتهم.
المطلب الثالث: موقف ابن حزم من التقليد.
المطلب الرابع: القول الراجح في المسألة.
المطلب الأوّل: المجيزون للتقليد وأدلّتهم.
ذهب جمهور العلماء [48] على جواز التقليد بالنسبة للعامّي , بل أوجبوه عليه , وفي المقابل حرّموه على المجتهد القادر على الاجتهاد [49] , قال الإمام ابن تيميّة بعد أن سرد أقوال العلماء في التقليد: " والذي عليه جماهير الأمّة: أنّ الاجتهاد جائز في الجملة , والتقليد جائز في الجملة , لا يوجبون الاجتهاد على كلّ أحد ويُحرّمون التقليد , ولا يوجبون التقليد على كلّ أحد ويُحرّمون الاجتهاد , وأنّ الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد , والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد " [50].
وقال الإمام الشنقيطيّ: " أمّا التقليد الجائز الذي لا يكاد يُخالف فيه أحد من المسلمين , فهو تقليد العامّي عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به " [51].
¥