وقال الإمام ابن قدامة المقدسيّ: " وأمّا التقليد في الفروع فهو جائز إجماعا " [52].
قال الإمام ابن عبد البر: " ولم يختلف العلماء أنّ العامّة عليها تقليد علمائها " [53].
الأدلّة التي اعتمد عليها أصحاب هذا القول:
لقد اعتمد أصحاب هذا القول بأدلّة من القرآن والسنّة والمعقول , ومن هذه الأدلّة:
الدليل الأوّل: قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] , قالوا: إنّ الله تعالى يأمر من لا يعلم أن يسأل من يعلم , وهذا يدلّ قطعا على أنّ الناس فيهم العالم والجاهل , وعلى الجاهل أن يسأل العالم عمّا يحتاج إليه ويعرفه , فتكليف الناس جميعا بأن يكونوا مجتهدين يُخالف ما تفيده الآية الكريمة [54] , والآية عامّة لكلّ ما لا يُعلم ولكلّ من لا يعلم , فالعامّي الذي لا يعلم , يجب عليه السؤال , والعمل بموجبه , وهذا هو التقليد [55].
يقول الإمام الشنقيطيّ: " أنّ من جهل الحكم تجب عليه سؤال العلماء والعمل بما أفتوه به " [56].
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. قال الإمام الزركشيّ: " فأمر بقبول قول أهل العلم , فما كان من أمر دينهم , ولولا أنّه يجب الرجوع إليهم لما كان للنذارة معنى " [57]. فدل ذلك على جواز التقليد للعامّي.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] , قالوا: العلماء هم أولو الأمر , لأنّ أمورهم تنفّذ على الأمراء والولاة [58] , لأنّ طاعتهم تقليدهم فيما يفتون , وهذا تقليد منهم للعلماء , ولأنّه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختصّ بهم [59].
الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] , قالوا: " إنّ تقليدهم إتّباع لهم , ففاعله ممّن رضي الله عنهم " [60] , وقد قال ابن مسعود , رضي الله عنه: " من كان منكم مستنّا فليستن بمن قد مات؛ فإنّ الحيّ لا تُؤمن عليه الفتنة , أولئك أصحاب محمّد أبر هذه الأمّة قلوبا , وأعمقها علما وأقلّها تكلّفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيّه , وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقّهم وتمسّكوا بهديهم فإنّهم كانوا على الهدي المستقيم " [61].
الدليل الخامس: ما رواه الإمام أبو داود في سننه عن جابر , رضي الله عنه , أنّه قال: " خرجنا في سفر , فأصاب رجلا منّا حجر فشجّه في رأسه , ثمّ احتلم , فسأل أصحابه , فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات , فلمّا قدمنا على النبي , صلّ الله عليه وسلّم , اُخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله , ألا سألوا إذ لم يعلموا , فإنّما شفاء العيّ السؤال " [62]. قال الزركشيّ بعد سرده للحديث: " فبان بذلك جواز التقليد " [63]؛ لأنّ النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , أرشد من لا يعلم إلى سؤال من يعلم [64].
الدليل السادس: ما صحّ عن النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , أنّه قال: " فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي " [65] , وقال: " اقتدوا باللذين من بعدي , أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمّار وتمسّكوا بعهد ابن أم عبد " [66].وهذا تقليد لهم قطعا , إذ كيف يكون الإقتداء بهم إن لم يكن تقليدا لهم , رضي الله عنهم [67].
¥