تقدم معنا أن خطاب الشارع كما يرد بالاقتضاء والتخيير فكذلك يرد بالوضع وهذا الوضع أو الحكم الوضعي هو الأمر الذي نصبه الشارع علامة على الحكم التكليفي وجعله مرتبطا به ومتعلقا بمعناه فهو وإن أخذ صفة الاستقلال عن الحكم التكليفي إلا أن له صلة وثيقة به ذلك لأنه بجميع أقسامه بمثابة العلامة التي تدل على الحكم التكليفي والتي لولاها لفات الناس كثير من الأحكام التكليفية دون أن يعلموا بها.
وسبق أن عرفنا أن الحكم الشرعي عند جمهور الأصوليين هو: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
وبينا أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: حكم تكليفي و حكم وضعي وأن هذه القسمة صحيحة. وسبق أيضا أن بينّا الحكم التكليفي وأقسامه بشيء من الاختصار الشديد. وها نحن – الآن – بصدد بيان الحكم الوضعي وأقسامه بشيء من التفصيل - فأقول وبالله التوفيق -:
المبحث الأول: في تعريف الحكم الوضعي لغة واصطلاحا:
أ – تعريف الحكم الوضعي لغة:
أما الحكم فقد سبق بيان معناه والمراد منه فراجعه في موضعه.
أما الوضعي في اللغة: مأخوذ من الوضع، والوضع في اللغة يطلق على عدّة معان.
المعنى الأول: يطلق على الولادة، يقال: " وضعت الحامل ولدها ": إذا ولدته.
المعنى الثاني: يطلق على الإسقاط، يقال: " وضع عنه دينه ": إذا أسقطه.
المعنى الثالث: يطلق على الترك، يقال: " وضعت الشيء بين يديه ": أي: تركته بين يديه.
ب- أما الحكم الوضعي في الاصطلاح:
فقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريفه، ولكن أقرب هذه التعريفات إلى الصحة هو:
"خطاب الله المتعلق بجعل الشيء سببا لشيء آخر أو شرطا له أو مانعا منه أو كون الفعل صحيحا أو فاسدا أو رخصة أو عزيمة أو أداء أو إعادة أو قضاء إلى غير ذلك ". وهذا التعريف الشامل هو الذي اختاره جمهور الأصوليين كالآمدي وغيره وهو ما سنمشي عليه في هذا البحث لأنه كما يبدو أكمل التعاريف وأجمعها لأصناف الحكم الوضعي بخلاف ما اقتصر عليه بعضهم حين عرفها مكتفيا بذكر الأسباب والشروط والموانع لكونها كليات الحكم الوضعي المتفق عليه.
شرح التعريف:
قوله في التعريف (خطاب الله تعالى) تقدم شرحه في تعريف الحكم الشرعي.
وقوله (المتعلق بجعل شيء سببا لشيء آخر …) الخ أي: الذي وضعه الشارع وجعله علامة على معرفة حكمه، ومعنى ذلك أن الشارع وضع أي: شرع أمورا سميت أسبابا وشروطا وموانع وغير ذلك تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي لأن الأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط وتنتفي بوجود الموانع أو انتفاء الأسباب والشروط كما سيتبين ذلك عند تعريف هذه الأمور في مواضعها من البحث – إن شاء الله -.
وحاصله أن الحكم الوضعي هو الوصف المتعلق بالحكم التكليفي وهذا الوصف إما أن يكون سببا كأوقات الصلاة: حيث إنها سبب لوجوبها على المكلف.
أو يكون شرطا كالطهارة في الصلاة: فهي شرط من شروط الصلاة لا تصح الصلاة إلا بها.
أو يكون مانعا: كالدين يمنع وجوب الزكاة وإن بلغ النصاب وحال عليه الحول، أو يكون صحيحا يترتب عليه حكمه أو فاسدا لا يترتب عليه شيء أو يكون رخصة كحل الميتة للمضطر وجواز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه وأشباه هذه الأمور مما سنذكره في مواضعه القادمة – بإذن الله -.
ج – سبب تسميته بالحكم الوضعي:
والعلماء يطلقون على هذا النوع الحكم الوضعي أو خطاب الوضع كما يطلقون عليه خطاب الأخبار أما وجه تسميته بخطاب الوضع فلان الشارع إنما قصد منه أن يكون علامة لشيء آخر بأن يكون سببا أو شرطا، أو مانعا أو غير ذلك فهو إذا موضوع وضعه الشارع معرفا لشيء آخر …
ولذلك يقول الطوفي الحنبلي: " أما معنى الوضع فهو إن الشرع وضع، أي شرع أمورا سميت أسبابا وشروطا وموانع تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط وتنتفي لوجود الموانع وانتفاء الأسباب والشروط ".
ويقول القرافي في شرح التنقيح: " إنه سمي بذلك لأنه شيء وضعه الله تعالى في شرائعه (أي جعله دليلا وسببا وشرطا) لا أنه أمر به عباده ولا أناطه بأفعالهم من حيث هو خطاب وضع ".
¥