ويقول زكي الدين شعبان: " وإنما سمي هذا القسم بهذا الاسم لأن الربط بين شيئين بالسببية، أو الشرطية أو المانعية إنما هو بوضع الشارع وجعله، دون غيره، ولولا جعل الشارع الشيء سببا أو شرطا أو مانعا لما كان كذلك ".
وأما وجه تسميته بخطاب الإخبار فلأنه مجرد إخبار يفيدنا بوجود الأحكام التكليفية أو انتفائها طلبا أو تخييرا بخلاف خطاب التكليف فإنه إنشاء وليس إخبارا وفي هذا المعنى يقول الطوفي في شرحه لمختصر الروضة: " أما معنى الإخبار فهو أن الشرع بوضع هذه الأمور أخبرنا بوجود أحكامه أو انتفائها عند وجود تلك الأمور وانتفائها وكأنه قال مثلا: إذا وجد النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة والحول الذي هو شرطه فاعلموا أني قد أوجبت عليكم أداء الزكاة وإن وجد الدين الذي هو مانع من وجوبها، فاعلموا أني لم أوجب عليكم الزكاة. وكذا الكلام في القصاص والسرقة والزنى وكثير من الأحكام بالنظر إلى وجود أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها وعكس ذلك." وبهذا الاعتبار يكون المعنى الذي ارتأيناه في معنى الوضع ومعنى الإخبار هذا مترادفين وبمعنى واحد.
المبحث الثاني: في أقسام الحكم الوضعي:
مما سبق ذكره في تعريف الحكم الوضعي يتبين لنا أقسامه عند جمهور الأصوليين وأنها على تلك الأصناف المذكورة التي اشتمل عليها التعريف وهي: السبب، والشرط، المانع، الصحة والفساد، الرخصة والعزيمة، الأداء والقضاء والإعادة، غير أن هذه الأقسام كما ذكرنا ليست محل اتفاق عند علماء الأصول جميعهم.
فالآمدى في الأحكام أشار إلى أن أنواع الحكم الوضعي هي: السبب، والشرط، والمانع، والصحة، والفساد، والعزيمة والرخصة والأداء والإعادة والقضاء. وإلى ذلك ذهب ابن قدامة في الروضة إلا أنه زاد عليها " العلة " على اعتبار أنها تختلف عن السبب.
أما الإمام الشاطبي – رحمه الله – في الموافقات حصرها في سبعة أنواع وهي: السبب، والشرط، والمانع، والصحة، والبطلان، والعزيمة، والرخصة.
وزاد القرافي في " شرح تنقيح الفصول " نوعين آخرين هما: التقديرات الشرعية والحجاج، ولم يعد الأداء والإعادة والقضاء منها.
أما فخر الإسلام البزدوي فإنه قرر في أصوله أن أنواع الحكم الوضعي أربعة فقط وهي: " السبب " و " العلة " و " الشرط " و " العلامة ".
ووافقه على ذلك كثير من الحنفية كعبدالعزيز البخاري في " كشف الأسرار " وذكر أن دليل حصرها هو: الإستقراء، كذلك الفتوحي الحنبلي فقد ذكر أن أنواع الحكم الوضعي أربعة فقط وهي المذكورة سابقا إلا أنه أبدل " العلامة " ب "المانع " وذلك في كتابه " شرح الكوكب المنير ".
ولست هنا لأحقق في هذا الموضوع ولكن أريد أن أبين أن أقسام الحكم الوضعي لم تكن محل إتفاق عند علماء الأصول جميعهم، بل قد اختلفوا في بعضها هل تكون من قبيل: الحكم الوضعي أو التكليفي أو هل تكون أحكاما عقلية أو شرعية؟
وسوف أذكر هذا الخلاف عند بحثي لهذه الأقسام – إن شاء الله – وسيتبين عندئذ أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن جميع هذه الأصناف هي من الخطاب الوضعي ومتعلقاته وليست غير ذلك.
المبحث الثالث: في المقارنة بين الحكم التكليفي والوضعي:
حتى يتميز كل قسم من أقسام الحكم الشرعي عن الآخر عقدت هذه المقارنة وإذا ما تفحصنا تعريف كل من الحكم التكليفي والوضعي ظهرت لنا بعض الفوارق بينهما يمكن تلخيصها بما يأتي:
1 - أن الحكم التكليفي خطاب طلب أو تخيير بخلاف الحكم الوضعي لا طلب فيه ولا تخيير وإنما هو خطاب إخبار وإعلام جعله الشارع علامة على حكمه وربط فيه بين أمرين بحيث يكون أحدهما سببا للآخر أو شرطا له أو مانعا منه أو نحو ذلك.
2 - إن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف وهو البالغ العاقل الذي يتوجه إليه الخطاب ويقع عليه التكليف بخلاف الوضعي فإنه يتعلق بفعل الإنسان مطلقا سواء أكان مكلفا أم لا؟ كالصبي والمجنون ونحوهما فإنهما يضمنان ما يتلفان بالإتفاق.
3 - إن الحكم التكليفي يشترط له أن يكون مقدورا للمكلف لأن التكليف بغير المقدور تكليف بالمحال والمحال لا يصح التكليف به، وأما الوضعي فقد يكون مقدورا للمكلف بحيث يستطيع فعله أو تركه كالسرقة مثلا التي هي سبب في قطع اليد. وقد يكون غير مقدورا للمكلف كما في دلوك الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة.
4 - إن الحكم التكليفي لا يتصور وجوده منفردا عن الوضعي خلافا للحكم الوضعي فإنه من الممكن انفراده عن الحكم التكليفي كما يمكن اجتماعهما معا. ومن أمثلة انفراد الحكم الوضعي عن التكليفي: أوقات العبادات وجعل الشارع البلوغ شرطا في التكليف ومن أمثلة اجتماعهما: كون الزنى حراما وهو في الوقت نفسه سبب لوجوب الحد على صاحبه.
5 - الحكم التكليفي يشترط فيه أن يكون معلوما للمكلف حتى يتوجه قصده إليه كالصلاة والصيام والحج ونحوها لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وهذا بخلاف الوضعي فليس من شرطه وجود العلم ولذلك تحل المرأة بعقد وليها وتحرم بطلاق زوجها وإن كانت لا تعلم.
¥