وحجة القول الأول في ذلك هي: أن كون الفعل الذي يأتي به المكلف موافقا للأمر الطالب له أو غير موافق له على قول المتكلمين في تعريف الصحة والفساد أو كونه تمام المطلوب حتى يكون مسقطا للقضاء، او عدم كونه تمام المطلوب بحيث لا يندفع القضاء على تعريف الفقهاء يكفي في معرفة ذلك العقل المجرد وبيان ذلك: أنه بعد ورود الأمر بالصلاة مثلا ومعرفة حقيقة الصلاة المأمور بها فإن إتيان المكلف فعلا مطابقا لتلك الحقيقة أو غير مطابق لها لا يتوقف على الشرع بل إن العقل يدرك ذلك بمفرده كما يدرك كون المكلف مؤديا للصلاة أو تاركا لها على السواء، قال ابن الحاجب: " أما الصحة والبطلان أو الحكم بهما فأمر عقلي" ثم عقب على ذلك الشارح العضد موضحا المراد فقال: " اعلم أنه قد يظن أن الصحة والبطلان في العبادات من جملة أحكام الوضع وليس كذلك إذ بعد ورود أمر الشرع بالفعل فكون الفعل موافقا للأمر أو مخالفا له وكون ما فعل تمام الواجب حتى يكون مسقطا للقضاء وعدمه لا يحتاج إلى توقيف من الشارع بل يعرف بمجرد العقل " فظهر بذلك أن العقل عندهم هو الذي يحكم لصحة الشيء إذا استوفى أركانه وشروطه دون الإحتياج لذلك إلى أن يتوقف على خطاب من الشرع.
أما حجة القول الثاني القائلين: بأنهما حكمان شرعيان لا عقليان فهي:
أولا: أن كون الفعل يقع مستجمعا لشروطه وأركانه، وارتفاع موانعه حتى يكون صحيحا لا يمكن أن يعرف إلا من الشرع والرجوع إلى أمره في ذلك.
ثانيا: إن معرفة استجماعه لما ذكر موقوف على معرفة الركن والشرط والمانع، ومعرفة هذه الثلاثة موقوفة على خطاب الشارع بالإتفاق، ولا معنى لكون الصحة والفساد من الأحكام الشرعية إلا كونهما لا يعرفان إلا من طريق الشرع.
وقد رد ابن السبكي على القول بأن الصحة والفساد من أحكام العقل وأثبت أنهما أمور شرعية لا عقلية فقال في رفع الحاجب: " والصورة عندنا أن الصحة والبطلان والحكم بهما أمور شرعية وكون الفعل مسقطا للقضاء أو موافقا للشرع هو من فعل الله تعالى وتصييره إياه سببا لذلك، فما الموافقة ولا الإسقاط بعقليين لأن للشرع مدخلا فيهما … ولو لم تكن الصحة شرعية لم يقضي القاضي بها عند اجتماع شرائطها لكنه يقضي بها بالإجماع فدل على أنها شرعية إذ لا مدخل للأقضية في العقليات وليس للقاضي أن يحكم إلا بما يصح أن يكون حكما من الشارع.
ثم قال متعجبا من ابن الحاجب: " والعجب كل العجب ممن يرى أن خطاب الوضع حكم شرعي ثم لا يرى الصحة حكما شرعيا ولو قال هذه المقالة من لا يرى ذلك لرددنا عليه فما ظنك بمن يراه؟ " والحاصل أن الصحة والفساد أحكام شرعية ولا شك إذ هما من الألفاظ الشرعية التي لم تستفد إلا من جهة الشرع.أن الصحة والفساد أحكاما شرعية ولا شك
وإذا ثبت لنا أن الصحة والفساد من الأحكام الشرعية على الصحيح لا من أحكام العقل، فهل هما من أحكام الشرع التكليفية أم من الأحكام الوضعية؟ اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنهما من الأحكام التكليفية حيث يرى بعض الأصوليين أنهما يرجعان إلى خطاب التكليف ولا يخرجان عن مضمونه ومدلوله، وهذا القول هو قول الإمام الرازي في المحصول والبيضاوي في المنهاج وغيرهما.
ووجهتهم في ذلك: أن المراد بالصحة هو إباحة الإنتفاع بالمبيع مثلا والمراد بالبطلان أو الفساد حرمته، والإباحة والحرمة من أحكام التكليف، فاندرج بذلك تحت لفظ الاقتضاء والتخيير ضمنا فكانا من أقسام الحكم التكليفي.
المذهب الثاني: أنهما من أقسام الحكم الوضعي، وهذ الرأي هو الذي أخذ به أكثر علماء الأصول، كالغزالي والآمدي والشاطبي والآسنوي وغيرهم.
وقد ردوا على الرأي الأول بأن إرجاع أقسام خطاب الوضع ومنها الصحة والفساد إلى الحكم التكليفي أمر فيه عسر وتكلف لا يساعد عليه اللفظ ولا ينتظمه المعنى، ولذلك فقد استبعده الآسنوي في شرح المنهاج وأثبت عدم جدواه فقال: " أما دعواه بأن الصحة هي إباحة الإنتفاع فمنقوض بالمبيع إذا كان الخيار فيه للبائع فإنه صحيح ولا يباح للمشتري الإنتفاع به "ثم استشكل دخول صحة العبادة في أحد الأحكام التكليفية الخمسة فأفهم كلام الآسنوي عدم اندراج الصحة والفساد تحت لفظي الاقتضاء والتخيير فهما إذا من أقسام الحكم الوضعي وهذا هو الرأي الراجح من هذه الأقوال، لأنه إذا
¥