وأرجح هذه التعريفات هو تعريف القاضي البيضاوي؛ لأنه جامع مانع، وقد اعترض عليه بأنه غير مانع من دخول غيره فيه، حيث أن الحكم الثابت بالناسخ لأجل المشقة كعدم وجوب ثبات الواحد للعشرة في القتال ونحوه ليس برخصة مع أن الحد منطبق عليه.
وقد أجيب عليه: بأن المنسوخ لا يسمى دليلا، ثم إن سماه أحد دليلا إنما هو على سبيل المجاز والله أعلم.
شرح التعريف المختار:
قوله في التعريف (الحكم): جنس يشمل الرخصة والعزيمة وقوله: (الثابت): إشارة إلى أن الترخص لا بد له من دليل، وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، فنبه عليه بقوله الثابت لأنه لو لم يكن لم يكن لدليل لم يكن ثابتا بل الثابت غيره.
(قوله على خلاف الدليل): احترز به عما أباحه الله تعالى من الأكل والشرب وغيرهما فلا يسمى رخصة لأنه لم يثبت على المنع منه دليل …
وأطلق الدليل؛ ليشمل ما إذا كان الترخيص بجواز الفعل على خلاف الدليل المقتضي للتحريم، كأكل الميتة وما إذا كان بجواز الترك، إما على خلاف الدليل المقتضي للوجوب، كجواز الفطر في السفر، وإما على خلاف الدليل المقتضي للندب، كترك الجماعة بعذر المطر والمرض فإنه رخصة بلا نزاع.
قوله (لعذر) يعني المشقة والحاجة والإحتراز به عن شيئين:
الأول: الحكم الثابت بدليل راجح على دليل آخر معارض له.
الثاني: التكاليف كلها فإنها أحكاما ثابتة على خلاف الدليل لأن الأصل عدم التكليف والأصل من الأدلة الشرعية ومع ذلك ليست برخصة لأنها لم تثبت لأجل المشقة.
أمثلة تطبيقية على الرخصة:
1 - الأكل من الميتة عند الضرورة (على خلاف في تسميته رخصة) فالعذر هو: ضرورة حفظ النفس مع بقاء سبب الحكم الأصلي وهو ضرر الميتة.
2 - التلفظ بالكفر عند الإكراه يعتبر رخصة فالعذر هو: الإكراه مع بقاء سبب الحكم الأصلي وهو وجود أدلة وجوب الإيمان، وحرمة الكفر.
أما إذا لم يبق السبب الموجب للحكم الأصلي، كحل ترك المسلم الثبات لعشرة من الكفار بعد أن كان ممنوعا فلا يسمى رخصة؛ لأن الحكم الأصلي: وهو وجوب الثبات للعشرة قد زال سببه وهو قلة المسلمين، وحين أبيح لهم ترك هذا الثبات، وألزموا بالثبات أمام اثنين فقط لم يكونوا قلة وإنما كانوا كثرة، وهكذا يقال في جميع الأحكام المنسوخة.
ج) تعريف الرخصة عند الحنفية:
وأما تعريف الحنفية للرخصة في الإصطلاح الشرعي فقد عرفوها بأنها: " اسم لما بني على أعذار العباد وهو ما يستباح بعذر مع قيام الدليل ".
وقد احترزوا بذلك عن العزيمة فإنها ليست مبنية على أعذار العباد بل هي حكم أصلي شرع ابتداء لغير عذر ثم فسروها بما يستباح بعذر مع قيام المحرم.
فقولهم في التعريف (ما يستباح) عام يتناول الفعل والترك.
وقولهم (لعذر) احتراز عما أبيح لغير عذر، كفرض الصلاة والزكاة ونحوهما فإنه عزيمة.
وقولهم (مع قيام المحرم) أي مع بقاء دليل الحكم الأصلي، وقد احترزوا به عن مثل الانتقال إلى الصوم عند فقد الرقبة في نحو كفارة الظهار مثلا فإن عدم وجود الرقبة لا يبقي معه قيام السبب المحرم لاستحالة التكليف باعتاقها حينئذ لأن ذلك يكون تكليفا لما ليس في الوسع.
المطلب الثاني: في أقسام الرخصة:
للعلماء منهجان في بيان أقسام الرخصة وهما منهج الشافعية والحنابلة، ومنهج الحنفية.
المنهج الأول: قسم علماء الأصول من الشافعية والحنابلة الرخصة باعتبار حكمها إلى أربعة أقسام:
1 - رخص واجبة:
كأكل الميتة للمضطر وشربه مما حرم عليه من المشروبات فإنه واجب لعذر وهو حفظ الحياة بناء على القول الصحيح المشهور ودليله قوله تعالى:" ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ".
وقيل: أن الأكل للمضطر أو شربه مما ذكر بناء على أن القول بالوجوب يتنافى مع الترخيص، ولذلك نقلوا عن الكيا الهراسي في كتابه أحكام القرآن قوله: (الصحيح عندنا أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة كالإفطار للمريض في رمضان).
وقد أشار بعض علماء الأصول إلى خلاف الفقهاء في حرمة شرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله ونحوها في حال الضرورة – بقطع النظر عن كون الأكل واجبا أو جائزا -: هل ترفع تلك الحرمة في هذه الحال فيصير أكلها مباحا، أو تبقى ويرتفع الإثم فقط؟
¥