ومن رجالِ بني كُلَيْبٍ المذكورين: الدَّلَهْمَسُ من بني زَيْدِ بن كُلَيْبٍ، من فرسان تَمِيمٍ بالسِّنْدِ، وابنُه عبَّاسُ من شجعانِ النَّاسِ المذكورين بالبصرة، ومنهم: معاويةُ بنُ أوْسٍ؛ فارسٌ شاعرٌ جاهليٌّ حَفِظَتْ له كتبُ الأدب أبياتاً فَحْلةً. ومنهم: عبدُ الله بن عثمانَ الكُلَيْبيُّ، سيِّدٌ شجاعٌ من فرسان تَمِيمٍ قُتِل في سِجِسْتان؛ حين حامى عن عبدِ الله بن ناشرةَ المُجاشِعيِّ الثائرِ بسِجِسْتان في زمن ابن الزبير حتى قتلا، فرثاهما أبو حُزَابَةَ بشعرٍ مَشْهورٍ. ومنهم: شَرِيكُ بنُ عُصَيْمة الكُلَيْبيُّ الذي رثى جريرٌ، من رجالهم وشجعانهم. ومنهم: جبيرُ بنُ عياض الكُلَيْبيّ من ساداتهم رثاه جريرٌ.
أمَّا القَوْلُ بأنَّ جريراً ارتفع عن الفَخْرِ برَهْطِه كُلَيْبٍ إلى الفَخْرِ بيَرْبُوعٍ لأنَّه لَمْ يَجِدْ لهم مفاخرَ ومآثرَ؛ فهذا الكلامُ الواهنُ، وإنما أُتِيَ قائلُه من قلَّةِ تدبُّرٍ في النَّقائضِ ومعاني الشُّعراءِ فيها؛ فجريرٌ حين ناقَضَ شُعراءَ بني يَرْبُوعٍ كغسَّانَ السَّلِيطيِّ افتخر عليهم ببني كُلَيْبٍ، وحين ناقَضَ شُعراءَ بني حَنْظَلَةَ كالفرزدقِ ارتفعَ ففاخَرَهم بيَرْبُوع، وإذا ناقَضَ شُعَراءَ غير تميميين ارتفع إلى الفَخْرِ بتميمٍ أو بِمُضَرَ أو بنزارٍ. فهذه النَّقائضُ ومذهبُهم فيها؛ يحوزُ كلُّ شاعر إليه المفاخرَ والمآثرَ التي ليس لخصمِه فيها شِرْكةٌ، وكذلك كان يصنعُ الفرزدقُ فيفخرُ برَهْطِه مجاشعِ بنِ دارمٍ ويضمُّ إليه فخرَه ببني عمِّه بني نَهْشَلِ بنِ دارمٍ وبني عبدِ الله بن دارمٍ ولم يعدُدْ أحدٌ عليه في هذا نَقيصةً. وقد كفَّ الفرزدقُ مرغَماً عن هجاءِ مِسْكينِ الدَّارِمِيِّ وقال: "نَجَوْتُ من مُهاجاةِ مِسْكِينِ الدَّارِمِيِّ، لأنَّه لَوْ هجاني اضطرَّني أنْ أهدمَ شَطْرَ حَسَبي وفَخْري؛ لأنَّه من بحبوحةِ نَسَبي وأشرافِ عَشِيرتي، فكان جريرٌ حينئذٍ ينتصِفُ مِني بيدي ولساني"، فالفرزدقُ يعلمُ أنَّه يَمْتَحُ فخرَه من أمجادِ بني عمِّه وليس من رهطِه مجاشعٍ خاصَّةً، ولَوْ هَجَاهم الفرزدقُ لأمْسَكَ عن مفاخرةِ النَّاسِ بأفعالِهم فيَهْدِمَ شَطْرَ فَخْرِه، كما كَفَّ جريرٌ عن الفَخْرِ بأفعالِ بني سَلِيطٍ وقال: "لولا ما فَعَلَ العَبْدُ ابنُ أمِّ غَسَّانَ لنَشَرْتُ من أيامِ بني سَلِيطٍ ما لا يبيدُ جَدَّ الدَّهْرَ" قال الرَّاويةُ: "وكانوا فُرْساناً".
فإنْ قَلَّبْتَ النَّظَرَ بعدُ في شعرِ جريرٍ لوَجَدْته يَفْخَرُ بفصيلتِه بني الخَطَفَى وبعشيرتِه بني كُلَيْبٍ، وذلك في شعرِه كثيرٌ، كقولِه:
بَنَى الخَطَفَى حتى رضِينا بِناءَهُ = فهل أَنْتَ إنْ لم يُرْضِكَ القَيْنُ قاتِلُه
بَنَيْنا بِناءً لم تنالوا فُرُوعَهُ = وهدَّمَ أَعْلَى ما بنيتم أَسَافِلُه
بنُو الخَطَفَى والخيلُ أيامَ سُوفَةٍ = جَلَوْا عنكُم الظَّلماءَ وانشقَّ نُورُها
ما زال عِيصُ بني كُلَيْبٍ في حِمى = أَشِبٍ ألَفِّ مَنابِتِ العِيصانِ
وروى أبو عُبَيْدَة من المآخذِ على جريرٍ: "مِمَّا يُعَدُّ على جريرٍ قولُه:
أتوعِدُني وراءَ بني رياحٍ = كَذَبْتَ لَتَقْصُرَنَّ يَدَاك دُوني
فقال له بنو كُلَيْبٍ: ما هجانا أحدٌ قطُّ أشدُّ مما هَجَوْتَنا بِه! حين استوى لك أنْ تقولَ وراء بني كُلَيْبٍ، فرغِبْتَ عن آبائِك إلى أعمامِك"، وما قالَه جريرٌ ـ إنْ سلِمَتِ الرِّوايةُ من غَلَطِ الرُّواةِ أو تَزَيُّدِهم ـ هو حَقُّ المعنى وهو الصَّحيحُ الجاري على مذاهبِ الشُّعراءِ؛ فجريرٌ يهجو بتلك الأبياتِ فَضالةَ العَرِينِيَّ، وقد حمَِيَ لأخوالِه بني سَلِيطٍ حين فَضَحَهم جريرٌ، فهدَّده فضالةُ برهطِه ثَعْلَبَةَ ومعهم بنو سَلِيطٍ، فكان قولُ جريرٍ: إنْ تفعلَ فإنَّ بني رِياحٍ مَعِي عليك. وبنو كُلَيْبٍ وبنو رياحٍ يَدٌ على بني ثَعْلَبَةَ. هذا مذهبُهم في نَقْضِ المعاني.
وما تجِدُه في كلِّ شعرٍ هُجِيَ به بنو كُلَيْبٍ فيُوصَفُونَ بأنَّهم رُعَاةُ شاءٍ ليسُوا بأَهْل إبلٍ ولا خيلٍ؛ فذلك على مَعْنى تعاهدَهُ شُعراءُ العربِ؛ فالعربُ يرَوْنَ أَهْلَ الغنمِ أَقْبلَ للضَّيْمِ وأَرْضى بالهَضِيمَةِ وأَخْنَعَ للذُّلِّ كقولِ الرُّواةِ في قبيلةٍ: "كانوا أهلَ شاءٍ وحميرٍ فلم يَسْتطيعُوا بَرَاحاً فأقامُوا وأقَرُّوا بالذُّلِّ". ولهذا المَعْنَى تَرَى جريراً يهجُو برِعْيَةِ الشَّاءِ فيقولُ:
ولا شَهِدَتْنا يومَ جَيْشِ مُحَرِّقٍ = طُهَيَّةُ فُرْسانُ الوُّقَيْدِيَّةِ الشُّقْرِ
وذلك كثيرٌ في شعرِه وشعرِ بنيهِ؛ وفي أخبار الفرزدقِ خَبرٌ فيه أنَّ الفرزدقَ كان يرعى غنم أهلِه في صباه، وما بَلَّ لسانَ الفرزدقِ في هجاء جريرٍ إلا ذِكْرُه الشَّاءَ والحميرَ.