تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[جرير وعشيرته كليب: صورة أخرى]

ـ[منصور الرحيمي]ــــــــ[22 - 08 - 08, 11:44 م]ـ

"جزء من دراسة مخطوطة"

...

ليس كبني الخَطَفَى فصيلةٌ في العربِ تعاقبَ أبناؤُها على كرِّ العصورِ وتحدُّرِ الأجيالِ على إذكاءِ نيرانِ الشَّتائمِ والأهاجي، فهَيَّجُوا غُوَاةَ الشُّعراءِ عليهم فرَاشُوا لهم مِن عُورانِ الكلامِ سهاماً نافذةً لا يَبِلُّ جريحُها، فاحْتَقبُوا لقَوْمِهم بني كُلَيْبٍ الضَّغينةَ والأحقادَ والذِّكْرَ السَّيِّئَ في الشِّعرِ والأخبارِ.

وكلُّ من أراد أنْ يحدِّثَنا عن بني كُلَيْبٍ فإنَّه يعودُ إلى نقائض جَرِيرٍ وأبنائِه من بعدِه لينتزعَ مِمَّا قيل فيهم مآثرَ بني كُلَيْبٍ وتاريخَها، وماذا في النَّقائضِ عنهم غير الذِّلة والقلَّة؟! وغير تشفِّي الأعداءِ بالسَّفَهِ والتفحُّشِ؟! فلَمْ تكن كُلَيْبٌ غيرَ مَدْرَجٍ للمَشاتِم، قد التَحَفَها الهجاءُ التحافاً، ولم يترك الشُعَراءُ فيها متعرَّقاً، وفَرَشوا أمرَهم فرمَوهم بكلِّ عظيمةٍ وذميمةٍ.

حتى إذا فَرَغَ الشُّعراءُ من الهجاءِ ـ والهجاءُ كَذُوبٌ ـ جاء الرُّواةُ والأدباءُ فجعلُوا كلَّ ما قال النَّاسُ في بني كُلَيْبٍ حقاً، وحدا بعضَهم إعجابُه بجَرِيرٍ إلى الإزراءِ بقومِه والحطِّ مِنْهم ليقولَ: هو الشَّاعرُ؛ كان يَنْهشُه نحوٌ من أربعين شاعراً فبذَّهم وأَكَلَهم، على خُبْثِ مَنْبِتِه ودِقَّةِ أصلِه ولُؤْمِ قومِه!

فأبو عُبَيْدَةَ يقولُ: "كُلَيْبٌ وعَمْرو خَسِيسانِ من بني يَرْبُوع"! ويقولُ: "لم يمدَحْ أحدٌ قطُّ بني كُلَيْبٍ غير الحُطَيْأَة"، ويسوقُ الرُّواةُ كلمةَ ابنةِ الحُطَيْأَةِ: "بئسَ ما استبدلْتَ من بني رِياحٍ بَعْرُ الكَبْشِ"، جعلوها تعني الذلَّةَ، ولَمْ تُرِدْ غير تَفَرُّقِ منازلِهم.

ثم تجاوزتْ هذه النظرةُ القرونَ فآمَنَ بها مؤرِّخو الأدب المعاصرون؛ فيقولُ شوقي ضيف عن جَرِيرٍ: "لَمْ يكن لآبائِه ولا لعشيرتِه ما لآباءِ الفَرَزْدَقِ وعشيرتِه مجاشِعٍ من المآثرِ والأمجادِ، أما العشيرةُ فقد عُرِفَتْ بأنَّها كانتْ تَرْعى الغنمَ والحميرَ"، وقال الفحَّام: "لَمْ يُطِل جَرِيرٌ الفخرَ بأسرته الأدنين، فَخَرَ بجدِّه الخَطَفَى ولكنَّه لم يُبْدِئ في هذا الفَخْرِ ويُعِد، فقد كان من وضاعةِ أبيهِ عطيةَ ما يمنعُه من أنْ يجلِّيَ في هذا المضمار، ولم يُطِل جَرِيرٌ الفَخْرَ برهطه الأدنين من بني كُلَيْبٍ، وأنَّى له أنْ يفخرَ بمَن لا مفاخِرَ له؟ ".

وليس من العربِ قبيلةٌ إلا وقد نِيلَ منها وهُجِيتْ، وقالوا: إنَّما يَسْلمُ من الهجاءِ النَّبِيهُ جِدَّاً الذي يَكْبُرُ قَدْرُه عن مقاريضِ الهجَّائين أو الخاملُ جداً الذي يَدِقُّ لُؤْمُه عن الوصولِ إليه، ومَن بينهما ـ وهم عامَّةُ النَّاسِ ـ فقد لَحِقَتهم مَعَرَّةُ الهجاءِ، وما الهجاءُ إلا "سَفَهٌ وتفحُّشٌ يُلتمس به غَيْظُ المنسوبِ، وأكثرُ من يتكلمُ بمثل هذا الغضبانُ السَّفيهُ الضَّيِّقُ الصَّدرِ"، وجاء في بعضِ كلامِ أبي العلاءِ المَعَرِّيِّ: "ما ضَرَّ فوارسَ المَرُّوتِ هَدْرُ الفرزدقِ بشِدْقٍ مَهْروتٍ؟ "، يعني بفوارسِ المرُّوتِ بني كُلَيْبٍ.

أما زَعْمُ مَن زَعَم أنَّ بني كُلَيْبٍ ليس لهم من المآثر مأثُرَةٌ فيُكْذِبُه ذِكْرُ أيامِهم، فقد كان لبني الخَطَفَى يومُ سُوفَةَ؛ وهو يومٌ استنقذُوا فيه مالَ بني سَلِيطٍ وقد اكتسحَتْه قيسُ عَيْلان وذَهَبَتْ به، وغَصَبَهم حقَّهم فارسُ تميمٍ عُتَيْبَةُ بنُ الحارثِ وأحْلَبَه قومُه بنو ثَعْلَبَة بن يَرْبُوع فلَمْ يبيتُوا على خَسْفٍ فأخذوا منه الحقَّ وانتصفُوا مِن تَعَدِّي إخوتِهم، وحَمَوا بئرَ بني سَلِيطٍ من بني حِمَّان، وجاوَرَهم الحُطَيْأَةُ فحمِدَ جِوارَهم فقال يَمْدحُهم:

لنِعْمَ الحيُّ حَيُّ بني كُلَيْبٍ = إذا ما أوقَدُوا فَوْقَ اليَفاعِ

ونِعْمَ الحيُّ حيُّ بني كُلَيْبٍ = إذا اختلَطَ الدَّواعِي بالدَّواعِي

وليس الجارُ جارَُ بني كُلَيْبٍ = بِمُقْصى في المحلِّ ولا المُضَاعِ

هم صَنَعوا لجارِهم ولَيْسَتْ = يدُ الخرقاءِ مِثْلَ يَدِ الصَّناعِ

ويحرم سِرَّ جارتِهم علَيْهم = ويأْكلُ جارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ

وجاوَرَ البَعِيثُ المُجاشِعيُّ الشَّاعرُ بني الخَطَفَى ثلاث سنين فحَمِدَ جِوارَهم وأثنى عليهم خيراً.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير