وقد مرَّت هذه المرحلة والطلبة بين مد وجزر من حيث العدد تؤثر فيهم صوارف الحياة بين إقبال وإدبار، وقد أدركناهم وعددهم لا يتجاوز العشرة، ومن بينهم بقية من طلاب الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وفي آخر هذه الفترة التحق بدرسه مجموعة من الطلاب لازمه بعضهم إلى آخر حياته رحمه الله.
وحسبي من هذا الإيراد وقفة مهمة ينبغي التفطن لها، وأن تكون لطالب العلم على بال، وأن يقف عندها كل من سلك هذا الطريق؛ وهي أن تتصور مدى صبر الشيخ رحمه الله وتحمله للفترات التي تمر على الطلبة من حيث الإقبال والإدبار والمد والجزر؛ حتى إنه خلال ما يقرب من عشرين سنة من 1376هـ حتى 1396هـ كان العدد الذي بقي معه لا يزيدون على العشرة، بل ربما لا يتجاوزون الاثنين أو الثلاثة أحياناً؛ فللَّه درُّ شيخنا من صاحب همة عالية تتساقط دونها كثير من الهمم؛ فلم تلن له قناة، ولم ينثنِ له عزم، بل صبر وصابر على انصراف الناس وعزوفهم وزهدهم في العلم.
وهذا يصور لنا جانباً من صفحات صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل والنشر.
عشرون سنة من 1376هـ 1396هـ وحصيلتها عشرة طلاب يزيدون أو ينقصون قليلاً! لقد كان رحمه الله أستاذاً فريداً في الصبر والنظر إلى المستقبل، ولعله يترجم هنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمر النَّعم» [2] نحسبه كذلك.
المرحلة الثالثة: من 1401هـ حتى نهاية شهر رمضان 1421هـ.
انطلقت هذه المرحلة بنحو من ذلك العدد أو يزيد قليلاً عما كان عليه في المرحلة السابقة يزيدون يوماً فيوماً؛ فإذا بالصف في الحلقة يصبح صفين وثلاثة، وهكذا في نمو متتابع.
ثم إذا بالحال غير الحال؛ حيث انتقل طلاب في دراساتهم وآخرون في أعمالهم إلى عنيزة وما حولها رغبة في لزوم الشيخ وثني الركب عنده، بل هناك فئة أخرى قدمت إلى عنيزة مُوقِفَة نفسها على طلب العلم مكتفية من متاع الدنيا بما يهيئه الشيخ من أمور على قدر الحاجة التي تخفف عنهم أعباء الانقطاع لطلب العلم والغربة، حتى صارت مجالس دروسه مهوى أفئدة كثير من طلاب العلم، وصار طلابه من غالب مدن المملكة، بل من الدول الأخرى، حتى إنه بلغ عدد جنسيات الطلاب الذين ارتادوا دروسه ومجالسه العلمية ما يقرب من ثلاثين جنسية.
وبلغ عدد طلابه في بعض الدروس قرابة الخمسمائة؛ فالحمد لله الذي أقر عين شيخنا بذلك بعد مكابدة تلك السنين، وجعل ذلك في ميزان حسناته.
المحور الثاني: طريقته في التعليم: طريقة شيخنا رحمه الله في التعليم تتبلور فيما يلي: أولاً: تأثره بشيخه الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله.
ثانياً: موقفه من التعصب المذهبي.
ثالثاً: عرضه لمسائل الخلاف.
رابعاًَ: أسلوبه في إلقاء الدرس.
خامساً: حرصه على حفظ المتون.
وإليك بيان ذلك: أولاً: تأثره بشيخه الشيخ عبد الرحمن السعدي: يقول شيخنا رحمه الله عن نفسه: «لقد تأثرت كثيراً بشيخي عبد الرحمن السعدي رحمه الله في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلاب بالأمثلة والمعاني.
والمنهج الذي سلكه الشيخ عبد الرحمن رحمه الله هو منهج خرج به عن المنهج الذي يسير عليه علماء نجد في زمانه في غالبيتهم؛ حيث اعتماد المذهب الحنبلي في الفروع من مسائل الأحكام الفقهية، بل كان كثيراً ما يتبنى آراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويرجحها على المذهب، فلم يكن عنده الجمود تجاه مذهب معين، بل كان متجرداً للحق» انتهى كلامه رحمه الله.
هذا وقد انطبعت هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذه شيخنا محمد رحمه الله فلم يكن تبنيه رحمه الله لآراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم نابعاً عن هوى أو تقليد، بل كان متجرداً للحق حيثما وجد؛ فهو ضالته ومطلبه، بل إنه رحمه الله خالف شيخ الإسلام ابن تيمية في عشرات المسائل أكثر من مخالفة شيخه السعدي لشيخ الإسلام، وكان رائد الجميع رحمهم الله البحث عن الحق أنى وجد.
¥