وأخيراً يقول الشيخ عن نفسه: «والحقيقة أن انتقال والدي رحمه الله إلى الرياض كشف لي مدى الحب الذي يكنه لي الشيخ السعدي رحمه الله إذ أصر في طلب بقائي بجواره في عنيزة للاستزادة من العلم، وكاتب والدي فوافق، فبقيت بجوار شيخنا السعدي، وأجدني اليوم متأثراً به كثيراً» اهـ.
ثانياً: موقفه من التعصب المذهبي: لم يكن رحمه الله في طرحه العلمي مركِّزاً على المذهب الحنبلي الذي كان يدرِّس متونه، بل كان يحث طلابه بعلمه وعمله على توخي القول الصحيح، وإن خالف المذهب مع لزوم الأدب مع العلماء والاعتراف بفضلهم وما بذلوه من جهد في هذا المضمار؛ فالمرجع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وعلى هذا سار في تعليمه وفتواه، بل تأثر به بعض علماء عصره حتى ممن يكبره سناً.
وكان معظماً للأمر الذي عليه دليل من الكتاب أو السنة ومقدماً لهما على كل قول حتى إنه يقول منكِراً على من يخالفه: «لو قال لكم أحد: إن هذا القول قول العالم الفلاني لأكبرتموه واشرأبت إليه أعناقكم، كيف وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم!».
ويرى رحمه الله أن المتعصب لمذهب أو شخص مع أن الدليل خلافه مُقْدم على خطر عظيم؛ وذلك أنه أي بتعصبه يستلزم تقديم قول غير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا خطير جداً.
صحيح أن الإنسان يتأثر إذا تفقه على يد عالم أو على مذهب معين يتأثر بهذا العالم أو بهذا المذهب؛ وهذا لا يستلزم أن يكون الإنسان متعصباً لهذا المذهب أو لذلك الرجل، وهذه مسألة يجب التفطن لها وهي أن طالب العلم إذا تبين له الدليل فعليه أن يتبعه حيثما كان؛ لأن الله سبحانه يقول: [وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ] (الشورى: 10)، ويقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء: 59).
ويقول سبحانه: [وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ] (القصص: 65).
ثالثاً: عرضه لمسائل الخلاف: أما عرضه لمسائل الخلاف أثناء الدرس فكان رحمه الله يعرضها بكل تجرد؛ حيث إنه يبدأ بتقرير المذهب وكم من مسألة خالف فيها المذهب وأخذ بالقول الراجح فيها، وكم من مسألة أخرى بيَّن رحمه الله أن الحجاوي ذهب إلى غير القول الراجح في المذهب ثم يعرض لأحد الأقوال في المسألة، ويسرد أدلته وحججه ويبينها أيما بيان حتى تظن من عرضه وبيانه لها أنه لا يمكن ردها؛ بل كأنه بهذا العرض ينتصر لها وأنه القول الراجح.
ثم ما إن يعرض للقول الآخر وأدلته وحججه ويبينها حتى يبدأ برد أدلة القول السابق أو توجيهها وترجيح القول المختار مما يظهر غزارة علمه وعدم تعصبه لقول إلا بدليله.
وهو مع هذا منصف لمخالفيه ملتزم بأدب الخلاف.
وكان لا يقبل من أحد أن يذكر له شخصاً بعينه من العلماء المعاصرين وإنما يقال: قال: بعض أهل العلم؛ حتى يمكن مناقشة قوله بكل تجرد.
هذا وله قدرة على الاستنباط من الأدلة الشرعية، وكان رحمه الله أحياناً يكلف أحد طلابه ببحث بعض المسائل لتمرينهم على البحث العلمي، ثم يطلب منه في وقت الدرس قراءة البحث على الطلاب ويقوم الشيخ بالتعليق عليه.
رابعاً: أسلوبه في إلقاء المادة العلمية: كان رحمه الله يلقي دروسه بأسلوب عجيب يتجه إلى القلب، وكان يكره من سامعيه عدم التركيز أو الانشغال بأمور أخرى غير الدرس وذلك بمفاجأتهم بقوله: «ما قلنا؟» أو سؤالهم عن معلومة كان يشرحها، وأحياناً يوقف الكلام لا لإرادة الوقوف وإنما ليكمل الطلاب الجملة ليعرف مدى اتصالهم بالدرس، وأحياناً يحرك الحضور من خلال الأسئلة، ولا ينتقل من نقطة إلى أخرى حتى يشعر أنها قد فهمت، ولربما أعاد وكرر؛ وكل ذلك حرص منه على فهم المتلقي عنه.
هذا وكان له اهتمام بسلامة اللغة؛ حيث تميز رحمه الله بلغته العربية وفهمه لها وعدم تكلفه في إلقائها والتكلم بها، مما أعطاه فهماً للنصوص، وانطبع ذلك على اهتمامه بسلامة لغة طلابه وحرصه عليها مع ما يجده من معاناة من الطلاب في ذلك.
¥