العبادات والشعائر من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها, يجري فيها هذا الأمر أو قريباً منه, فقد توعد الله تعالى المصلين في كتابه الكريم، والصلاة عبادة في أصلها، فلماذا توعدهم؟ توعدهم لأنه وصفهم بقوله: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [هذا المصلي، الذي قام بهذه العبادة من أجل الناس رياء وسمعة, يتمنى يوم القيامة أنه لم يصل, لأن الصلاة لم تزده من الله إلا بعداً ولم تزده في جهنم إلا سفلاً وتوغلاً. ولذلك توعد الله تبارك وتعالى المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار, تحت الكفار، مع أن المنافقين كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصومون معه في الظاهر، بل كانوا يجاهدون, بل منهم من يقتل في المعركة, ويظهر للناس الذين حوله أنه قتل شهيداً في سبيل الله, وهو لا يزداد بهذه الأعمال من الله إلا بعداً, ولا يزداد في جهنم ودرجاتها إلا سفلاً وانحطاطاً والعياذ بالله، مع أن أصل العمل عبادة، لكن افتقد الشرط الأساس وهو النية، الذي هو (إكسير) يحول الأعمال العادية إلى عبادات يؤجر عليها صاحبها.
وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفقهون هذا المعنى ففي الصحيحين أن معاذ بن جبل قال لأبي موسى الأشعري يَا عَبْدَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا أي ألازم قرآته ليلا ونهارا. قَالَ فَكَيْفَ تَقْرَأُ أَنْتَ يَا مُعَاذُ قَالَ أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِى مِنَ النَّوْمِ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِى، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِى كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِى أي: أنه يحتسب وهو نائم، من الأجر مثل ما يحتسب وهو يقظ يصلي, لأنه وهو نائم يشعر أنه في عبادة. ومعاذ من كبار فقهاء الصحابة، فقد روى أبونعيم في الحلية والطبراني عن محمد ابن كعب بسند صحيح مرسل كما في السلسلة الصحيحة (ج) 3 ص 83 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {معاذ بن جبل أمام العلماء برَتوة أي بخَُطوة، وهذا من فقهه وعلمه رضي الله عنه, أنه يحتسب في نومته كما يحتسب في قومته من العبادة, فالإنسان وهو نائم يتقلب في فراشه، ويؤجر إذا كان نومه بنية صالحة؛ نام ليتقوى على عبادة الله
إذاً الأمر الأول والمهم في موضوع تزكية النفس وصلاحها، هو: إصلاح النية، وأن يكون الإنسان في كل ما يأخذ وما يدع, لا ينظر إلا إلى هم واحد, وهو أن يكون هذا الأمر في مرضاة الله تبارك وتعالى.
إخوة الإيمان! من وسائل تزكية النفس أيضا: طلب العلم النافع. وقد ظن كثير من الناس اليوم، أن طلب العلم يعني معرفة الإنسان بالأحكام والفروع, وأن هذا مباح وهذا مستحب, وهذا مكروه وهذا محرم وما أشبه ذلك, أو أن الإنسان يقرأ القرآن أو يقرأ الحديث, وهذا ليس هو العلم فقط, هذا جزء من العلم, والعلم أوسع من هذا كله. ففي سنن الترمدي ومستدرك الحاكم عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ أنه قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ «هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَىْءٍ». فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِىُّ كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ». قَالَ جُبَيْرٌ فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قُلْتُ أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنْ شِئْتَ لأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلاَ تَرَى فِيهِ رَجُلاً خَاشِعًا. والحديث صحيح كما في صحيح الجامع [رقم 6990] فهل نحسب نحن هذا من العلم؟ لا نحسبه من العلم, إنما يحسبه الناس اليوم من العبادات, فيقال: فلان عابد إذا كان مصلياً خاشعاً قانتاً, والآخر عالم، إذا كان عالماً بالأحكام التفصيلية, ولو لم يكن عابداً، وما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهمون العلم هذا, بل كان مفهوم العلم عندهم أنه العلم الموصل إلى الله, أن تعرف شيئاً يقربك إلى الله, وأن تعلم مسألة فتعمل بها؛ لتدخل الجنة وتنجو من النار, هذا هو العلم عندهم