وقد يورد مادةً لغويةً ولا يذكر ضمنَها أيَّ حديث، وإنما يشير إلى تكرار ذكر لفظة معينة، فيتحدث عنها مفردةً، كقوله في"هَلُمَّ ():"قد تكرر في الحديث ذكر"هَلُمَّ"ومعناه: تعال، ومنه لغتان، فأهل الحجاز يُطْلقونه على الواحد والجميع والاثنين والمؤنث، بلفظ واحد مبني على الفتح، وبنو تميم تُثَنِّي وتجمع وتؤنث فتقول: هلُمَّ وهَلُمّي وهَلُمَّا وهَلُمُّوا".
وكقوله ():"تكرر ذكر التوكل في الحديث، يقال: تَوَكَّل بالأمر إذا ضَمن القيام به، ووكَلْتُ أمري إلى فلان أي: ألجأته إليه، واعتمدت فيه عليه. وكقوله ():"قد تكرر ذكر"المُزْن"وهو الغيم والسَّحاب، واحدته مُزْنة. وقيل: هي السحابة البيضاء".
5 ـ ومن معالم منهجه أنه يحرص على تعيين موارده التي يستقي منها، وذلك شأن المحقق الذي يسبر هذه الموارد، ويقف على أقوال صاحبها؛ ليُمَكِّنَ المُراجعَ من مراجعة المسائل العلمية في مظانِّها، ويدرس ما هو مبثوث فيها من أقوال. ففي الحديث () "أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ قلوباً وأبخَعُ طاعة"يقول:"أي: أبلغُ وأنصحُ في الطاعة من غيرهم. قال الزمخشري:"هو من بَخَع الذبيحة إذا بالغ في ذبحها، وهو أن يقطع عَظْمَ رقبتها ويبلُغ بالذبح البِخَاع -بالباء- وهو العِرْقُ الذي في الصُّلب، والنَّخْع بالنون دون ذلك. هكذا ذكره في كتاب"الفائق في غريب الحديث"، وكتاب"الكشاف"في تفسير القرآن، ولم أجده لغيره، وطالما بحثت عنه في كتب اللغة والطب والتشريح فلم أجد البِخَاع بالباء مذكوراً في شيء منها".
وعرض لحديث علي () -رضي الله عنه- "فبعث الله السكينة، وهي ريح خَجُوجٌ فتطوَّقَتْ بالبيت"، ويقول:"وأصل الخَجِّ الشَّق، وجاء في كتاب"المعجم الوسيط"للطبراني عن علي -رضي الله عنه-: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: السكينة ريحٌ خجوج".
وذكر حديث جرير ():"حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنَّه مُذْهَبَةٌ"يقول: هكذا جاء في سنن النسائي، وبعض طرق مسلم، والرواية بالدال المهملة والنون، فإن صحَّت الرواية فهي من الشيء المُذْهَب".
وقد يُعَيِّن موارده من خلال تحديد المصنِّف الذي أخرج الأثر، فقد أورد حديث () ابن عباس -رضي الله عنه ـ"أرض الجنة مَسْلوفة". ثم قال:"هكذا أخرجه الخطابي والزمخشري عن ابن عباس، وأخرجه أبو عبيد عن عُبيد بن عمير الليثي، وأخرجه الأزهري عن محمد بن الحنفية".
ويذكر حديث () أسيد بن مظعون"طِرْت بغنائها وفُزْت بحيائها"يقول: هكذا ذكره الدارقطني من طرق في كتاب"ما قالت القرابة في الصحابة"، وفي كتاب"المؤتلف والمختلف"، وكذلك ذكره ابنُ بَطَّة في الإبانة".
ومن الطبيعي أن يستقي ابن الأثير جُلَّ النصوص التي يستشهد بها على مادته اللغوية، من الحديث الشريف نفسه، وكان من منهجه أن يسوق شواهد عديدة منه، تتفق وحديثَ الباب الذي انطلق منه، وكان يحرص على بيان الصلة التي تربط بين هذه الشواهد.
ففي مادة (أشر) يورد في الخيل حديث ():"ورجل اتخذها أشَراً وبَذَخاً"ثم يقول: الأشَرُ: البطَر، ومنه حديث الزكاة"كأَغَذِّ ما كانت وأسمَنِه وآشَرِه". أي: أبطرِه وأنشطِه، ومنه حديث الشعبي:"اجتمع جوارٍ فأَرِنَّ وأَشِرْنَ".
وفي مادة (حثل) يورد حديث ():"لا تقوم الساعة إلا على حُثالةٍ من الناس"ثم يقول:"الحُثالة الرديء من كل شيء". ومنه الحديث:"كيف أنت إذا بَقِيتَ في حُثالة من الناس"يريد: أراذلهم، ومنه الحديث:"أعوذ بك من أن أبقى في حَثْلٍ من الناس".
وفي مادة (نضب) يورد حديث ():"ما نضب عنه البحر وهو حيٌّ فمات فكُلوه". يقول:"نَضَبَ الماءُ: إذا غار ونَفِد"، ومنه الحديث:"كنَّا على شاطئ النهر بالأهواز وقد نَضَبَ عنه الماء". وقد يُستعار للمعاني، ومنه حديث:"نَضَبَ عُمْرُه"أي نَفِدَ".
وفي مادة (دأل) يورد حديث خزيمة ():"إنَّ الجنة محظورٌ عليها بالدآليل". ويقول:"أي: بالدواهي والشدائدِ. وهذا كقوله:"حُفَّت الجنةُ بالمكاره".
وفي مادة (نكر) يورد حديث أبي سفيان ():"إنَّ محمداً لم يُناكِرْ أحداً قطُّ إلا كانت معه الأهوالُ". ويقول:"أي: لم يحارب، والأهوالُ: المخاوِفُ"
¥