1 ـ قد لا يلمح صاحب"النهاية"في حديث الباب الذي يعرض له، لفظة غريبة معينة، وإنما يلحظ جلاء معناه العام، ومقاصده، فيشرحه شرحاً إجمالياً، لأنه لم يستوقفه فيه غريب معين، وكأنَّ الغريب معناه العام، فيشرع في بيانه. ففي الحديث () "الهَدْيُ الصالح والسَّمْتُ الصالح جزء من خمسةٍ وعشرين جزءاً من النبوَّة". يقول: "أي إنَّ هذه الخِلال من شمائل الأنبياء، ومن جملة الخصالِ المعدودةِ من خصالِهم، وأنها جزءٌ معلومٌ من أجزاء أفعالهم، فاقتَدوا بهم فيها، وتابِعوهم عليها. وليس أنَّ المعنى أنَّ النبوَّة تتجزَّأُ، ولا أنَّ من جَمَعَ هذه الخلالَ كان فيه جزءٌ من النبوَّة، فإنَّ النبوَّةَ غيرُ مكتسَبة ولا مجتلَبَةٍ بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله تعالى، ويجوز أن يكون أراد بالنبوَّة هاهنا ما جاءت به النبوةُ ودَعَتْ إليه من الخيرات".
ويعرض للحديث () "يُبْصِرُ أحدكم القَذَى في عين أخيه ويَعْمَى عن الجِذْعِ في عينه". فيقول: "ضربه مثلاً لمن يرى الصغير من عيوبِ الناس ويُعَيِّرهم به. وفيه من العُيوب ما نِسْبَتُه إليه كنسبة الجِذْعِ إلى القَذاة".
ويشير إلى الحديث (): "أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: متى تُوتِرُ؟ قال: أولَ الليل. وقال لعمر: متى تُوتِرُ؟ فقال: من آخر الليل. فقال لأبي بكر: أخَذْتَ بالحزم، وقال لعمر: أخَذْتَ بالعزمِ". يقول ابن الأثير: "أراد أنَّ أبا بكر حَذِرَ فواتَ الوِتْر بالنوم فاحتاط وقَدَّمه، وأنَّ عمر وَثِقَ بالقوة على قيام الليل فأخَّره، ولا خيرَ في عَزْمٍ بغير حزم، فإنَّ القوة إذا لم يكن معها حَذَرٌ أوْرَطَتْ صاحبها".
وفي الحديث (): "لولا أنَّا نَعْصي الله ما عصانا". يقول: "أي: لم يمتنع عن إجابتنا إذا دعوناه، فجعل الجواب بمنزلة الخطاب فسمَّاه عصياناً، كقوله تعالى: ? ? ? ? ? [آل عمران الآية: 54].
2 ـ ويُعْنَى صاحبُ"النهاية"بتحرير الأصل الدلالي للاستعمال اللغوي الوارد في الحديث الغريب، من قبيل فقه معاني اللغة وعَقْدِ صلةٍ بين أصل الدلالةِ اللفظيةِ الحسيَّة، وانتقالِ هذا الأصل إلى دلالة معنوية فيها جِدَّةٌ وسَعَةٌ. ففي الحديث (): "اللهم أرِّ بينهما". يقول ابن الأثير: "أي ألِّفْ، وأثْبِتِ الوُدَّ بينهما، من قولهم: الدابَّةُ تَأْرِي الدابَّةَ إذا انضمَّت إليها، وأَلِفَتْ معها مَعْلَفَاً واحداً، وآريْتُها أنَا".
ويذكر حديث عائشة () - رضي الله عنها- في والدها"وَرَأَبَ الثَّأْيَ". يقول: "أي: أَصْلَحَ الفَسادَ، وأصلُ الثَّأْيِ خَرْمُ مَواضِعِ الخَرْزِ وفسادُه".
وفي الحديث الآخر (): "ونَجَح إذ أكْدَيْتُمْ". يقول: "أي: ظَفِرَ إذ خِبْتُمْ ولم تَظْفَروا، وأصله من حافِرِ البئر، ينتهي إلى كُدْيَةٍ، فلا يمكنُه الحفرُ فيتركه".
وفي الحديث (): "أحبط الله عمله". يقول: "أي: أبْطله، يقال: حَبِط عملُه، وهو مِنْ قولهم: حَبِطَتْ الدابةُ حَبَطاً، إذا أصابَتْ مَرْعىً طيباً فأفْرَطَتْ في الأكل حتى تنتفِخَ فتموت".
3 ـ وقد يسوق ابنُ الأثير في"نهايته"الاحتمالاتِ المختلفةَ لمعاني اللفظ الغريب، في الحديث الذي يورده. وفي ذلك فُسْحَةٌ لمن يطالع في كتابه لاختيار ما يراه مناسباً لمعنى الحديث ومقاصِدِه، وهذا يَدُلُّ على اطِّلاعه على أقوال علماء الحديث والغريب، في فهم منطوق الحديث. ففي حديث الصدِّيق () لمَّا عُرِض عليه كلامُ مسيلَمة قال: "إنَّ هذا لم يَخْرُجْ من إلّ". يقول: "أي: من رُبُوبيَّةٍ، والإلُّ هو الله تعالى. وقيل: الإلُّ هو الأصلُ الجيد. وقيل: الإلُّ النسَبُ والقرابة فيكون المعنى: إنَّ هذا كلامٌ غيرُ صادرٍ عن مناسبة الحق، والإدلاء بسببٍ بينه وبين الصدق".
وفي حديث (): "فجعل المشركون يُرْبِسُون به العبَّاس"يقول: "يَحتمل أن يكون من الإرْباس وهو المراغَمَةُ، أي: يُسْمِعونه ما يُسْخِطُه ويَغيظُه، ويحتمل أن يكونَ من قولِهم: جاؤوا بأمورٍ رُبْسٍ أي: سُود، ويحتمل أن يكون من الرَّبيس، وهو المُصاب بمالٍ أو غيره أي: يُصيبون العباس بما يَسُوءُه".
¥