ولابن الأثير حِسٌّ لغويٌّ دقيق في تعليل التسمية، التي تُطْلق على اللفظ الغريب الذي يبحث فيه. وقد أَوْلَى هذا الجانبَ من مفردات اللغة عنايةً كبيرة؛ ممَّا يَدُلُّ على فقهٍ واسعٍ بمنطوق اللغة، وتعليل مسمَّياتها. فهو يعرِّف الارْش () بقوله: "وهو الذي يأخذه المشتري من البائع، إذا اطَّلَعَ على عيبٍ في المبيع، وسُمِّي أرشاً لأنه من أسباب النِّزاع. يقال: أَرَّشْتُ بين القوم إذا أوقعتَ بينهم".
ويشرح المسألة المبهمة () بقوله: "يريد مسألةً مُعْضِلَةً مُشْكلة، سُمِّيت مبهمةً؛ لأنها أبهمَتْ عن البيانِ فلم يُجْعَلْ عليها دليلٌ".
وفي حديث (): "يا أَمَةَ الجبَّار". يقول: "إنما أضافها إلى الجبَّار دونَ باقي أسماء الله تعالى؛ لاختصاص الحال التي كانت عليها؛ من إظهارِ العطرِ والبَخُورِ، والتباهي به، والتبختر في المشي".
وفي حديث (): "تحريمُها التكبير"يقول: "كأنَّ المصلِّيَ بالتكبير والدخول في الصلاة صار ممنوعاً من الكلامِ والأفعالِ الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالِها، فقيل للتكبير"تحريم"لمَنْعِه المصلِّيَ من ذلك؛ ولهذا سُمِّيَتْ تكبيرةَ الإحرام، أي: الإحرام بالصلاة".
4 ـ وقد يقتضي الأمر من ابن الأثير؛ أن يورِدَ في بيان معنى الحديث: بعض المحترزات والضوابط، التي تُفيد في تعيين مقاصد الحديث ودلالاته، ففي الحديث (): "احثُوا في وجوه المدَّاحين الترابَ". يقول: "أراد بالمدَّاحين الذين اتخذوا مدحَ الناسِ عادةً، وجعلوه صناعة يستأكلون به الممدوح، فأمَّا من مدح على الفعل الحسنِ والأمرِ المحمود؛ ترغيباً في أمثاله، وتحريضاً للناس على الاقتداء به، في أشباهه، فليس بمَدَّاح، وإن كان قد صار مادحاً بما تكلَّم به من جميل القول".
وفي حديث () أبي هريرة -رضي الله عنه-: "إنَّ يوسفَ مني بريء، وأنا منه بَراءٌ". يقول: "أي: بريء عن مُساواتِه في الحكم، وأن أُقاسَ به، ولم يُرِدْ براءةَ الولاية والمحبَّة؛ لأنه مأمورٌ بالإيمانِ به".
وفي الحديث (): "أشدُّ الناسِ عذاباً يومَ القيامة من قَتَلَ نبياً، أو قتله نبيٌّ"يقول: "أراد من قتله -وهو كافرٌ- كَقَتْلِه أُبَيَّ بن خَلَفٍ يوم بدر، لا كمن قَتَله تطهيراً له في الحدِّ كماعِزٍ".
وفي الحديث (): "لا يُعَذِّبُ اللهُ قلباً وعى القرآن". يقول: "أي: عَقَلَه إيماناً به وعَمَلاً. فأمَّا من حَفِظَ ألفاظه وضَيَّع حدودَه فإنَّه غيرُ واعٍ له".
5 ـ وابن الأثير فقيهٌ شافعي متمكن، يظهر في"نهايته"آثار اطلاعه على مذاهب الفقه المختلفة، إذ كان يشير إلى المشهورِ منها. وقد ذكرنا في مؤلفاته: أنَّ له مُؤَلَّفاً في الفقه الشافعي، هو: "شرح مسند الشافعي".
ومن آثار عَرْضه مذاهب الفقهاء؛ قولُه في الحديث (): "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاةُ فمن تركها فقد كفر"."ذهب أحمد بن حنبل إلى أنَّه يكفُر بذلك حَمْلاً للحديث على ظاهره، وقال الشافعي: يُقتل بتركها، ويُصَلَّى عليه ويُدْفَنُ مع المسلمين".
وفي الحديث (): "نهى عن بَيْعِ العُرْبان"، فيعرِّفه ثم يقول: "وهو بَيْعٌ باطلٌ عند الفقهاء؛ لما فيه من الشرط والغَرَرِ، وأجازه أحمد، وروي عن ابن عمر إجازته".
وفي الحديث (): "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا". يقول: "اختلف الناس في التفرُّقِ الذي يصحُّ، ويَلْزَمُ البيعُ بوجوبه، فقيل: هو التفرُّق بالأبدان، وإليه ذهب معظم الأئمة والفقهاء، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة ومالك وغيرُهما: إذا تعاقدا صَحَّ البيعُ، وإن لم يتفرَّقا، وظاهر الحديث يشهد للقول الأول".
وفي الحديث (): "لا تجوز شهادةُ بدويّ على صاحب قرية". يقول: "إنما كره شهادةَ البدويِّ لما فيه من الجفاء في الدين، والجهالة بأحكام الشرع، ولأنّهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها. وإليه ذهب مالك، والناسُ على خلافهِ".
6 ـ وابن الأثير نحويٌّ متمكن من علوم العربية، وقد ترك مؤلفات ذائعةَ الصيت في هذا الباب، منها كتابه المطبوع"البديع". ونجد في"نهايته"بصماتٍ واضحةً لكثيرٍ من التخريجات النحوية والأعاريبِ التي يسجِّلها على شواهده من الغريب الذي يتتبَّعُه، ممَّا يَدُلُّ على استيعابه جوانبَ الخدمة المطلوبة للحديث، وممَّا يدلُّ على فقهه الواسع بعلوم العربية وأدواتها.
¥