ومن استحكمت قوته في عهد القرن الأول فهو منهم وإن بقي إلى القرن الثاني والثالث، وهكذا، وقد يكون هذا هو السر ـ والله أعلم ـ وفي الشك في أكثر روايات الحديث وكرر النبي صلى الله عليه وسلم " ثم الذين يلونهم " مرتين أم ثلاثاً، وذلك أنه بعد انتهاء قرنه ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، تبقى جماعة من أهل الثالث يعيشون في الرابع.
هذا وقد احتج بهذا الحديث على أن الظاهر في التابعين وأتباعهم العدالة، فمن لم يجرح منهم فهو عدل.
وقد يوجه ذلك بأن الخير لم يرتفع من الأمة جملة بعد تلك القرون، فثناؤه صلى الله عليه وآله وسلم عليها، وذمه من بعدها إنما هو بناء على الأغلب، فكأنه يقول: إن غالب أهلها أخيار، وغالب من بعدهم أشرار، وإذا ثبت أن غالبهم أخيار فمن لم يعرف حاله منهم حمل على الغالب.
أقول: وفي هذا نظر من وجهين:
الأول: أنه قد يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم راعى الكثرة، فيكون حاصل ذلك أن القرن الأول ـ وهم الصحابة ومن انضم إليهم ـ غالبهم عدول، والقرن الثاني نصفهم عدول، والقرن الثالث ثلثهم عدول، والثلث كثير، وأما بعد ذلك فإن العدالة تقل عن ذلك، وعلى تسليم الغلبة في القرن الثاني ـ ايضاً ـ فقد يكون في الثالث التعادل واستحقوا الثناء لأن شرهم لم يكن أكثر من خيرهم، بخلاف من بعدهم.
الوجه الثاني: أن الغلبة تصدق بخمسة وخمسين في المائة ـ مثلاً ـ ومثل هذا لا يحصل به الظن المعتبر في أن من لم يعرف حاله من المائة فهو من الخمسة و الخمسين، ولو قال المحدث: أكثر مشايخي ثقات لما كان توثيقاً لمن لا يعرف ح اله منهم.
وتمام هذا البحث يأتي في الكلام على المجهول ـ إن شاء الله تعالى ـ
فصل 3
اختلف في حد الكبيرة اختلافاً كثيراً، ومن أحب الاطلاع على ذلك فليراجع كتاب الزواجر لابن حجر المكي.
وقد وردت الأحاديث في النص على بعض الكبائر، وثبت بالأدلة أن من الذنوب الأخرى ما هو أشد من بعض المنصوص أو مثله، فالمدار على الاجتهاد.
فصل4
اشتهر بين أهل العلم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، وقال جماعة كالكبيرة في رد الشهادة و الرواية، وقيده جماعة بالإصرار على كثير من الصغائر، بحيث تصير معاصي الرجل أغلب من طاعاته، فنص جماعة من الأئمة كالشافعي وغيره على أن من غلبت طاعاته معاصيه فهو عدل، وعبارة الشافعي: " لا أعلم أحداً أعطى طاعة الله حتى لم يخلطها بمعصية الله إلا يحيى بن زكريا عليه السلام، ولا عصى الله فلم يخلط بطاعته، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو العدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح " أسنده الخطيب في الكفاية ص79، وذكر هناك أقوالاً أخرى في هذا المعنى، وبسط الخلاف فيه ابن حجر المكي في الزواجر (3/ 187).
أقول: قد يصعب الحكم على من يجتنب الكبائر كلها بأن الغالب عليه المعصية، و الغالب على من يستكثر من الصغائر إلى ما يقرب هذا الحد أنه لا يسلم من بعض الكبائر، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وآله وسلم " الحلال بين و الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه " فالصغائر حمى الكبائر، فمن وقع في الصغائر إلى الحد المتقدم ذكره فالغالب أنه يقع في الكبائر، والله أعلم.
فإن فرض أنه لم يوقف له على كبيرة فقد يقال: يجعل حكمه حكم مرتكب الكبيرة؛ لما تقدم أن الغالب أنه لا يسلم منها.
فصل5
عدوّوا مما يسقط العدالة صغائر الخسة، ومثلوه بالتطفيف بحبة، وبسرقة باذنجانة، وكذلك قالوا في الرشوة، وأكل مال اليتيم، والغصب، وجزم كثير بأن هذه كلها كبائر سواء وقعت في كثير أو قليل، راجع الزواجر (1/ 331).
¥