أقول: الظاهر أنها كبائر، وعلى فرض أنها صغائر فالغالب أن صاحبها لا يسلم من الكبائر، لأن من لم يمنعه دينه وإيمانه وتقواه من المعصية لتحصيل منفعة تافهة فلأن لا يمنعه ذلك من تحصيل ما هو أعظم منها أولى وأحرى، قال الله تبارك وتعالى:?ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك? آل عمران آية 75، أي أن منهم من هو عظيم ا لأمانة حتى لا يغلب هواه وشهوته أمانته ولو عظمت المنفعة التي تحصل له بالخيانة، و القنطار جاء عن الحسن البصري أنه ملء مسك ثور ذهباً، ومنهم من ليس عنده من الأمانة ما يغلب به هواه وشهوته في اليسير كالدينار، أي وإذا كان هواه وشهوته يغلبان أمانته في الدينار فأولى من ذلك أن يغلباها فيما هو أكثر منه.
ومما يلتحق بهذا النوع تقبيل الأجنبية، أو معانقتها على رؤس الأشهاد، ويظهر والله أعلم ـ أنه كبيرة من جهة المجاهرة بالفحش، وفي الصحيحين وغيرهما " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " الحديث وفي المجاهرة بالمعصية عدة مفاسد منها: حمل الناس على فعل مثلها.
وفي صحيح مسلم " .. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
ومثل هذا الفعل ظاهر في إنتفاء الحياء أو ضعفه، وفي الصحيح " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " ومثل هذا الفعل ظاهر في انتفاء الحياء أو ضعفه.
ومعناه ـ والله أعلم ـ إذا فقد الإنسان الحياء صنع ما شاء، أي فالظن به أنه لا يحجم عن ارتكاب كل ما تدعوه إليه نفسه.
فصل6
اشتهر بين أهل العلم أن مما يخرم العدالة تعاطي ما ينافى المروءة، وقيده جماعة بأن يكثر ذلك من الرجل حتى يصير إخلاله بما تقتضيه المروءة غالباً عليه، قال الشافعي رحمه الله تعالى:" ليس من الناس أحد نعلمه ـ إلا أن يكون قليلاً ـ يمحض الطاعة و المروءة حتى لا يخلطهما بمعصية، ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما شيئاً من الطاعة والمروءة، فإذا كان الغالب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة و المروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته " مختصر المزني بهامش الأم (5/ 256).
أقول: ذكروا أن المدار على العرف وانه يختلف باختلاف حال الرجل وزمانه ومكانه، فقد يعد الفعل خرماً للمروءة إذا وقع من رجل من أهل العلم لا إذا كان من فاجر ـ مثلاً ـ وقد يعد ذلك الفعل من مثل ذلك الرجل خرماً للمروءة في الحجاز ـ مثلاً ـ لا في الهند، وقد يعد خرماً للمروءة إذا كان في الصيف لا إذا كان في الشتاء، أو يعد خرماً في عصر ثم يأتي عصر آخر لا يعد فيها خرماً.
ثم أقول: لا يخلو ذلك الفعل الذي يعده أهل العرف خرماً للمروءة عن واحد من ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون ـ مع صرف النظر عن عرف الناس ـ مطلوباً فعله شرعاً وجوباً أو استحباباً.
الثاني: أن يكون مطلوباً تركه بأن يكون حراماً أو مكروهاً أو بخلاف الأولى.
الثالث: أن يكون مباحاً.
فأما الأول فلا وجه للالتفات إلى العرف فيه، لأنه عرف مصادم للشرع، بل إذا ترك ذلك الفعل رجل حفظاً لمروءته في زعمه كان أحق بالذم ممن يفعله لمجرد هواه وشهوته.
وأما الثاني فالعرف فيه معاضد للشرع فالاعتداد به في الجملة متجه، إذ يقال في فاعله: إنه لم يستح من الله عز وجل ولا من الناس، وضعف الحياء من الله عز وجل ومن الناس أبلغ في الذم من ضعف الحياء من الله عز وجل فقط، وتقدم حديث " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ".
وأما الثالث فقد يقال: يلتحق بالثاني، إذ ليس في فعل ذلك الفعل مصلحة شرعية، وفيه مفسدة شرعية، وهي تعريض النفس لاحتقار الناس وذمهم.
هذا وقد يقال: إذا ثبت صلاح الرجل في دينه بأن كان مجتنباً الكبائر و الصغائر غالباً فقد ثبتت عدالته، ولا يلتفت إلى خوارم المروءة؛ لأن الظاهر في مثل هذا أنه لا يتصور فيه أن يكون إخلاله بالمروءة غالباً عليه، وعلى فرض إمكان ذلك فقد تبين من قوة إيمانه وتقواه وخوفه من الله عز وجل مالا يحتاج معه إلى معاضدة خوفه من الناس، بل يظهر في هذا أن عدم مبالاته بالناس إنما هو من كمال إيمانه وتقواه.
¥