القول الثاني: أن الكاذب عليه تغلّط عقوبته لكن لا يكفر ولا يجوز قتله لأن موجبات الكفر والقتل معلومة وليس هذا منها. فلا يجوز أن يثبت الأصل له. ومن قال هذا فلابد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيب ظاهر. فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهراً ولا ريب أنه كافر حلال الدم.
وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك للكذب، وهذا الجواب ليس بشيء.
قلت: ثم بيَّن ضعفه. ثم قال: لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا وهو أن هذا الرجل كذب على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً يتضمن انتقاصه وعيبه لأنه زعم أن النبي صلى الله عليه وسلمحكّمه على دمائهم وأموالهم وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم، ومقصوده بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها، ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكّماً في الدماء والأموال.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلل الحرام، ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه يأذن أن يبيت عند امرأة أجنبية خالياً بها وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين. وهذا طعن على النبي صلى الله عليه وسلم وعيب له.
وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة وهو المقصود في هذا المكان، فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين.
ومما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه. ويمكن أن يقال: رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لما تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين.
ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه. وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض إن لم يقصد الاستهزاء به. والأغراض في الغالب إما مال أو شرف. كما أن المسيء إنما يقصد – إذا لم يقصد مجرد الإضلال – إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة. وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفر كَفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله. اهـ.
قال المعلمي في الأنوار الكاشفة ص 273: وراويه عن ابن بريدة صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة، وفي السند غيره. وقد رُويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى وفي كل منهما ضعف. وراجع مجمع الزوائد. وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردوه فلما أسلم أهلها سوّلت له نفسه أن يظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة لعله يتمكن من الخلوة بها ثم يفر إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أن ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سوى ميلين. فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن ينزلوا الرجل محترسين منه، ويرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبروه. وحدوث مثل هذا لا يصح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبي صلى الله عليه وسلم غير متهم بالنفاق ثم استمر على الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
فتبيّن إن إسلامه لم يثبت فضلاً عن صحبته. والله أعلم.
* وأما الوليد بن عقبة وأنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى: ? يا آيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا ? [الحجرات: 6] فهذا لم يثبت بإسناد صحيح بيّن وإن كان ذهب إلى هذا جمع من المفسرين وخالفهم في ذلك بعض أهل العلم وقد جاء ما يعارض هذا.
أخرج أبو داود في السنن 4181 ثنا أيوب بن محمد الرقي ثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح نبي الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح رؤوسهم قال: فجيء بي إليه وأنا مخُلَّق فلم يمسني من أجل الخلوق.
¥