وبيان ما يُتَطَّهر به مُقدّمٌ على بيان الصِّفة؛ لأنها (لا تحصل) إلا بعد وجوده.
وما يُتَطَّهر به في الشرع: إما أن يكون أصلاً، وهو الماء، وإما أن يكون بدلاً عنه، وهو التراب في طهارة الحدث، وكلُّ طاهرٍ مُنق ٍ في الإستجمار في طهارة الخبث.
ولا شك أن البداءة ستكون بالأصل، ثم يُثنّى ببيان بدله بعده، وعليه فقد إعتنى الفقهاء رحمهم الله في كتاب الطهارة بالبداءة بأحكام المياه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله بعد بيانه لتعريف الطهارة فقال رحمه الله: [وهي: إِرتفاع الحدثِ، وما في معناهُ، وزوالُ الخَبثِ].
قوله رحمه الله: [وهي إِرتفاع الحدث] الضمير عائد إلى الطهارة.
وقوله: [إِرتفاع] مصدر إرتفع ليطابق المُفَسِّر للمُفَسَّر في اللزوم.
وقوله رحمه الله: [الحدث] مأخوذ من قولهم: حَدَثَ الشَّيءُ إذا جدَّ، وطرأ، ومنه الحديث، وهو الجديد.
وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله: فإن الحدث: [صفةٌ حكميةٌ تُوجبُ منعَ موصوفِها من استباحةِ الصلاةِ، ونحوها من العبادات التي تُشْترطُ لها الطّهارةُ]، ومن أهل العلم رحمهم الله من عرَّفه بقوله: [ما أوجب وضوءاً، أو غسلاً] فشمل كلا التعريفين الحدث بنوعيه: الأصغر، والأكبر.
وعلى هذا فالمراد بقول المصنف رحمه الله: (إرتفاع الحدث) زوال الوصف الحاصل بالحدث المقتضي للمنع مما تجب له الطهارة.
وقوله رحمه الله: [وما في معناه] معطوف على ما قبله فيكون التقدير: (وإِرتفاع ما في معناه) والضمير في (معناه) عائد إلى إرتفاع الحدث، وقيل: إلى الحدث، والذي في معنى الحدث غسل الميت، والنوم، والغسل المستحب، وتجديد الوضوء، فهذه كلها ليست بأحداث حقيقية، وشرعت من أجلها الطهارة فهي طهارة شرعية لا ترفع حدثاً حقيقياً وإنما ترفع ما هو في حكم الحدث من جهة التعبّد، فالغسل من تغسيل الميت عند من يقول به، فإنه يرى أن من غسّل ميتاً لزمه الغسل، وتغسيل الميت لم يوجب حدثاً، وإنما هو تعبّديٌ أمر الشرع به؛ فنزّل منزلة الحدث، وكذلك النوم ليس بحدث حقيقي، ولكنه مظنّة الحدث؛ فنزّل منزلته، وأخذ حكمه؛ وهكذا بقية المذكورات.
وقوله رحمه الله: [وزوال الخبث] زوال الشيء ذهابه، والخبث: هو النجاسة، وزوالها يكون عن البدن، والثوب، والمكان، وبهذه الطهارة يستبيح المصلي العبادة بطهارة بدنه من الحدث، وطهارته من الخبث في ثوبه، وبدنه، ومكانه الذي يصلي فيه.
قوله رحمه الله: [المياه ثلاثة] المياه جمع ماء، وجمعها رحمه الله لتعدّدها، واختلاف أنواعها.
وقوله رحمه الله: [ثلاثة] وهي: الطهور، والطاهر، والنجس، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور.
وذهب الحنفية رحمهم الله إلى أن الماء قسمان: طاهر، ونجس، وأنه لا فرق بين الطهور، والطاهر.
وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح في نظري والعلم عند الله، وذلك لما يلي:
أولاً: دليل الكتاب في قوله سبحانه وتعالى: {وأَنْزَلْنَا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً}
ووجه الدلالة: أن الله وصف الماء الباقي على أصل خلقته بقوله: {طهوراً} أي: أنه طاهر في نفسه مُطهِّرٌ لغيره فأصبحت فيه صفة زائدة على صفة الطهارة الأصلية فيه، وهي كونه: مطهراً لغيره، وقد دلّ على ذلك قوله سبحانه: {ويُنَزِّلُ عليكُمْ مِنَ السَّمآءِ مآءً ليُطَهِّركُمْ بِهِ} فلما وصف ماء السماء في هذه الآية بوصف زائد على وصف الماء الأصلي فيه من كونه يُطَهِّر دلّ على صحة ما ذكره الجمهور من أن الطّهور فيه معنى زائد، وهو كونه مطهراً لغيره ففارق الطاهر، والقرآن يفسّر بَعضُه بعضاً، فيكون معنى قوله في الآية الأولى {طَهُوراً} ما ورد في الآية الثانية من قوله سبحانه: {ليُطَهِركُمْ بِهِ}، وهذا هو معنى قول بعض المفسرين إن قوله سبحانه: {طهوراً} فيه زيادة في المبنى إقتضت أن يكون طاهراً مطهراً كما يقوله الإمام القرطبي رحمه الله، ويكون تعريف الجمهور للطّهور بأنه: هو الطّاهر في نفسه المطهر لغيره مستنبطاً من هذا الدليل الشرعي.
¥