تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما جوهر فلسفته فتقوم على التشديد على سمة "القصدية"، و"المرادية" في الخطاب؛ وهو ما يؤول إلى القول بأن التفاهم، أو التخاطب الناجح لا يحدث إلا إذا أدرك المخاطَب مراد المخاطِب. وهنا لابد من التفريق بين هذا النوع من البحث العلمي الموضوعي، وبين ما شاع في بعض اللسانيات الفرنسية وما شاكلها من تيّارات حداثية، وأدبية تُلغي سمة "المرادية" من الخطاب أو النص، وتجعل من لغته أو من طبقاته التحتية، وشحناته النفسية، ورموزه الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والدينية محورا للتأمل، والنقد الانطباعي.

ولعلّ من أهم الأسباب التي دعت إلى نشأة علم التخاطب الإسلامي:

1. تضخّم المادة العلمية المتعلقة بالمسائل اللغوية والتخاطبية المبثوثة في كتب الأصول، الأمر الذي أدى إلى تراكم علمي ومعرفي يسمح باستقلاله.

2. عدم قصر هذا النوع من البحث على الحاجة الأصولية بل يشمل أيضا النصوص القانونية، والمعاهدات السياسية، والاتفاقات الاقتصادية، وأنواع الخطاب المختلفة، وغير ذلك مما تشتد الحاجة فيه إلى معرفة الطرائق الموصلة إلى تخاطب ناجح، وتحليل سليم للخطاب.

3. شيوع الفوضى في تحليل الخطاب والنص بحيث أصبح المجال مفتوحا لكل من هبّ ودبّ لاقتحام الموضوع.

4. تنويع مصادر البحث لكي تشمل الدراسات الأصولية وغيرها من الدراسات اللغوية، والبلاغية، واللسانية.

5. عدم وجود مجال مستقل في العلوم العربية يبحث مسائل هذا الحقل المعرفي.

إن فكرة إفراد علم إسلامي خاص يبحث مجال التخاطب ربما لا تروق لفئتين من المهتمين بالموضوع:

الفئة الأولى: هم أولئك الباحثون الذين يفضّلون المنهج الباطني في دراسة النص متجاوزين عنصر "القصد" أو "المراد" من الخطاب. وهؤلاء لهم منهجهم الخاص في التعامل مع النص يختلف اختلافا جوهريا عما ما هو معهود في البراغماتية الحديثة التي تجعل من مراد المتكلم " the intention of the speaker" محورًا للدراسة. أما المنهج البراغماتي فيقوم على فكرة مبادئ التعاون التي تعني أن للمتخاطبين مصالح مشتركة في حصول التفاهم بينهما، وهو ما يؤول إلى القول بوجود أصول للتخاطب، منها مثلا تلك التي صاغها بول قرايس Paul Grice في براغماتيته المشهورة، كمبدأ الكم، ومبدأ الكيف، ومبدأ صدق المتكلم، ومبدأ الأسلوب، ومبدأ المناسبة، ومنها تلك التي عرفها الأصوليون، وقُدّمت لها صياغة نظرية تأصيلية في هذه الكتب، كمبدأ بيان المتكلم، ومبدأ صدق المتكلم، ومبدأ الاستصحاب، ونحو ذلك، فضلا عن الأصول التخاطبية التي تصف طبيعة الخطاب المثالي، كأصل الحقيقة (القول بأن الحقيقة هي الأصل)، وأصل الترتيب، وعدم الاشتراك، وغيرها. وأما المنهج الباطني، الذي نجد له جذورا في التاريخ الإسلامي عند الفرق الباطنية، وبعض طوائف الصوفية، والمذاهب الغنوصية، وسار على دربه (في إطار ما يمكن تسميته بالباطنية الجديدة) ثلة من المحدثين يتزعمهم علي حرب، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد مع تفاوت بينهم في مدى التمسك بهذا المنهج، فيقوم على مبادئ مغايرة تماما لمبادئ المنهج البراغماتي، مثل مبدأ الحجب، ومبدأ الشك، ومبدأ المخاتلة، وهي مبادئ تقوم في مجملها على فكرة أن المتكلم لا يقول الحقيقة، بل هو مخادع مضلل، وهذا المنهج، وإن صلح لدراسة النصوص الأدبية المستغلقة وما شابهها من الفنون، فلا أظن أنه يصلح لدراسة النصوص الدينية والقانونية ونحوها مما ينتمي إلى النصوص المقاصدية.

الفئة الثانية: وهم أهل التقليد الذين يُغلقون باب الاجتهاد، ويسدون منافذ العقل والعلم، ويشككون في كل محاولات التجديد والتطوير، والانفتاح على مصادر المعرفة غير التراثية.

ولعل الفرق بين الفئتين: فئة الباطنيين الجدد، وفئة المقلدين أن الخلاف مع الفئة الأولى خلاف منهجي وجوهري ومبدئي، لا يتوقع معه الاتفاق إلا بالعودة إلى المنهج العلمي في دراسة النص، وليكن المرجع في ذلك الدراسات اللسانية بمدارسها المعتبرة التي تقوم على الموضوعية، بعيدًا عن أهواء بعض اللسانيين الفرنسيين الذين يصفهم تشومسكي بأنهم زمرة من الهواة يضيعون أوقاتهم في مقاهي فرنسا. أما الخلاف مع الفئة الثانية فهو خلاف ثقافي اجتماعي لا يحتاج حلّه إلا إلى وقت للتأمّل يدرك فيه هؤلاء أهمية الأمر، وصدق النوايا؛ ويتذكرون فيه أن علم أصول الفقه ما كان ليأخذ هذا الشكل

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير