[نشأة القواعد الأصولية و تطورها]
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[10 - 04 - 07, 02:58 م]ـ
إن الحديث عن القواعد الأصولية هو حديث عن أصول الفقه، باعتبارها من أول المباحث الأصولية نشأة.
فقد نشأت القواعد الأصولية بشكل عام في زمن مبكر من التاريخ الإسلامي. فالنبي صلى الله عليه و سلم، انتقل إلى الرفيق الأعلى و قد بين كتاب الله، بشكل لم يبقى معه إجمال بعده صلى الله عليه و سلم. و لذلك لم تكن هناك حاجة لوضع قواعد للتفسير و البيان، ما دام المبين- بالكسر- موجدا.
و في عهد الصحابة رضي الله عنهم، لم تكن حاجة أيضا للبيان، ذلك أنهم – رضي الله عنهم- عربا أقحاح، حباهم الله بفصاحة اللسان سليقة و طبعا من غير تكلف و لا تصنع، و لكل قوم ميزة تميزهم، و الفصاحة ميزة العرب دون غيرهم، و لقد اصطفى الله تعالى لغتهم لتكون لغة القرآن الكريم،" و إنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" (الشعراء 192/ 195).
فكان لهم من سليقتهم العربية، و معرفتهم لسباب النزول و طبيعة البيئة التي نزل فيها الوحي، و إدراكهم لأسرار التشريع، بما عرفوا من حال رسول الله صلى الله عليه و سلم، و ما قاله، ما أغناهم عن وضع قواعد لتفسير النصوص التي يراد بها استنباط الأحكام منها.
و إذا كانت الضوابط، توضع لتكون موازين للفهم و لاستنباط، لئلا ينحرف المستنبط او يزل، فإن ما توفر للصحابة من ملكة اللسان، و الوقوف على أسرار التشريع بمعاصرة الوحي، و معرفة بأسباب نزوله و بيان المبلغ عن ربه، كان كل الكفاية لأداء الغرض الذي من أجله توضع الضوابط و تحدد الموازين [1] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn1).
و لذلك بقيت لنا نماذج من فهومهم السليمة تدل على تمكن من اللسان العربي و معرفة بأسرار التشريع. فقد روي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- حين تكلم عن عدة المتوفى عنها زوجها و هي حامل – قال: إن عدتها أن تضع حملها، و ستدل بقوله تعالى: " و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" (الطلاق 4). و قال: أشهد أن سورة النساء الصغرى نزلت بعد سورة النساء الكبرى، و هذا اعتماد على أن الثاني ينسخ الأول. [2] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn2)
و قد سار الصحابة- رضي الله عنهم- على هذا المنوال في تبليغ الدعوة و بيان الرسالة و تعليم الناس، حتى جاء عصر التابعين، و كل طبقة من هؤلاء التابعين تفقهوا على يد من كان عندهم من الصحابة في البلد الذي يقطنونه أو يرحلون إليه.
و قد اتسع الفتح الإسلامي، و دخل في الإسلام أقوام جدد فاختلط العرب بغيرهم بحكم انسياحهم في البلاد المفتوحة، و اتساع رقعة دولة الإسلام، فلم تعد العربية سليقة لكثير من الناس، و خاصة سكان الحضر، و كثرت الحوادث التي لم يكن للمسلمين عهد بها قبل الفتح. وكان ذلك مدعاة لنوع من الضبط لمآخذ الأحكام الفقهية، ليتسنى للمجتهد فهم سليم لنصوص الكتاب و السنة و إعطاء أحكام لما يجد من وقائع لم تكن من ذي قبل فكان طبيعيا في خضم هذه المستجدات التي لم تكن من قبل أن تظهر فروق في الاستدلال في هذا العصر، فوجدت بذلك مدرستان فقهيتان: مدرسة أهل الحديث و مدرسة أهل الرأي.
أما أهل الحديث فإنهم يقفون عند ظواهر النصوص دون بحث عللها. و قلما يفتون برأي.
أما أهل الرأي فإنهم يبحثون عن علل الأحكام، و ربط المسائل بعضها ببعض، و لا يحجمون عن الرأي إذا لم يكن عندهم اثر.
و كان أكثر أهل الحجاز أهل الحديث، و أكثر أهل العراق أهل رأي. [3] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn3)
مع أن كلا الفريقين عنده الحديث و عنده الرأي، و كانت نهضة عظيمة ترمي إلى الوفاء بالحاجات العملية للمجتمع، و قد اتسع ميدان الجدل و المناظرة بين فقهاء المدرستين، كما بدأت في نظر الباحثين الاحتمالات و الاشتباهات في مدلولات النصوص، و معني الألفاظ، و كانت طبيعة هذه المرحلة تقضي بأن يعين كل فريق بضبط مسائله، فظهرت نثارات من الضوابط هنا و هناك، تعتمد أذواق تربت في ذلك الملكات الفكرية في الفقه، و الحرص على الاستعانة بما جرى عليه الاستعمال عند الصحابة و تلامذتهم من التابعين.
¥