تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[أم هالة]ــــــــ[22 - 10 - 08, 02:00 ص]ـ

و متى تقرر ذلك فإنه يحق لنا أن نتساءل عن سر تلك الأحكام القاسية التي تحيط بها الأسطورة شخصية قراقوش، و التي تقدمه إلينا في صورة قاتمة مثيرة، و الظاهر أن هذه الأساطير الشعبية المثيرة قد ظهرت في عصر قراقوش ذاته، أو من بعده بقليل.

فقد انتهت إلينا رسالة خطية صغيرة منسوبة للأسعد بن مماتي ناظر الديوان في عهد صلاح الدين و عنوانها " الفاشوش في أحكام قراقوش" يحمل فيها على قراقوش بشدة، و يرميه فيها بالطغيان و الغفلة، و يقول في مقدمتها: " إنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش قد أتلفت الأمة، صُغت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين" و تحتوي هذه الرسالة على عدة اخبار و نوادر منسوبة لقراقوش للتدليل على اضطراب تفكيره، و على شدة جوره و عسفه.

و قد نُسبت هذه الرسالة (عدا الديباجة) أيضا إلى السيوطي،، و وردت فيها نفس الأخبار و النوادر.

بيد أن المُرجح أنها ترجع إلى عصر صلاح الدين ذاته، بدليل أن ابن خلكان يشير إليها، و يبدي ريبه في صحة ما ورد فيها، و يُرجح أنها موضوعة و ليست من تأليف ابن مماتي.

و قد استرعى نظرنا من بين هذه النوادر التي نُسبت فيها لقراقوش نادرتين:

الأولى: أنه أمر بحبس دائن شكا من مماطلة غريمه، و ذلك أنه أمر بالقبض على المدين فاحتج أنه رجل فقير، و أنه كلما اقتصد مبلغا و أراد إعطاءه للدائن لم يجده، فعندئذ قال قراقوش: احبسوا صاحب الحق، حتى إذا حصل المدين شيئا يجد له موضعا يدفع له فيه. فعندئذ قال صاحب الحق: تركت حقي يا مولاي و أجري على الله. و مضى لشأنه.

الثانية: أنه كان بمصر تاجر غني بخيل، و كان له ولد يقترض باسمه، و استمر الاقتراض حتى زاد عليه الدين و لم يمت أبوه، فاتفق مع الدائنين على أن يدفن والده بالحياة، و انقضوا عليه بالفعل ذات يوم فغسلوه و كفنوه ووضعوه في النعش و هو يصيح و لا يُغاث، فلما وصلوا إلى المسجد للصلاة عليه، اتفق أن كان قراقوش مارا فنزل و صلى عليه مع المصلين و سمع الميت المزعوم ذلك، فصاح مستغيثا و هو يقول: يا مولاي أنقذني من ولدي فهو يريد دفني بالحياة. فقال قرقوش للولد: كيف تفعل ذلك بوالدك؟ فقال: هو كاذب يا مولاي، فإني لم أغسله و لم أحمله في التابوت إلا و هو ميت، و هؤلاء الحاضرون يشهدون بذلك، فقال قراقوش للحاضرين: أتشهدون بصحة ما قال؟ فقالوا: بلى نشهد.

فالتفت قراقوش للميت و قال: كيف أصدقك وحدك وأكذب هؤلاء الحاضرين؟ روح اندفن لئلا تطمع فينا الموتى، و لا يبقى أحد يدفن بعد هذا اليوم. فحُمل الرجل و دفن بالحياة.

و رسالة" الفاشوش" تضم عدة من الأخبار و النوادر المماثلة، و كلها من أفانين الخيال الشعبي، و كلها بعيدة الاحتمال و التصديق، و قد رفض تصديقها مؤرخون عظام مثل ابن خلكان الذي عاش قريبا من هذا العصر.

بيد أنها لبثت تتناقل على كر العصور، و تدمغ اسم الرجل الذي نُسبت إليه، و تغمر شخصيته الحقيقة بوابل من الصفات و الأحكام القاسية التي مازالت تعلق به حتى عصرنا.

بيد أنه يحق لنا أن نتساءل كيف يمكن أن تصدر مثل هذه الترهات و الأباطيل من رجل مثل قراقوش، كان وزيرا لملك عظيم مثل صلاح الدين يًُقدر أقدار الرجال، و كان معاونه الأثير لديه، الحائز لكامل عطفه و ثقته، و كان صلاح الدين يدخره للاضطلاع بكل عظيمة من الأمور و المهام.

و في رأينا أن السر في هذا التزييف التاريخي، يرجع إلى شخصية قرقوش نفسه و إلى أعماله الضخمة، فقد كان قراقوش شخصية ممتازة، وافرة الصرامة و الحزم، و قد امتازت بالأخص بالقوة و السرعة في إنجاز المنشآت العظيمة، التي كان في مقدمتها إنشاء قلعة الجبل و سور القاهرة و قناطر الجيزة، و كلها من المنشآت الهائلة التي تقتضي إقامتها حشد عشرات الألوف من الرجال، و قد رأينا فوق ذلك أن قراقوش أمر بهدم عدد كبير من الأهرامات الصغيرة لكي يستعين بأحجارها الضخمة على إقامة هذه المنشآت، و نحن نعرف ما يقتضيه مثل هذا العمل من الجهود الضخمة المضنية.

و قد كان يُعتمد في العصور الوسطى في إنجاز الأعمال العامة بالأخص على السخرة و حشد الأيدي العاملة بطريق القسر و الإرهاق، و قد كانت هذه الوسيلة تتخذ على يد رجال أقوياء مثل قراقوش صورا مثيرة من الخشونة و القسوة، فكان يحشد عشرات الألوف أو مئات الألوف أحيانا من العمال و الأسرى و العبيد، و معظهم يُحشد رغم أنفه، و ربما خُطف الناس من الشوارع أو من منازلهم، ثم يُساقون إلى العمل قسرا تحت إشراف قوم من العرفاء الظلمة القساة، و لا يحصلون من الأجر إلا على كسرة جافة يتبلغون بها، و كان الكثير منهم يهلك من القسوة و الإنهاك و سوء التغذية.

و هكذا كان قراقوش خلال الأعمال الضخمة التي قام على إنشائها رمزا لكل هذه القسوة و هذا الظلم الفادح، و كان مسئولا في نظر العامة عن هذه الضحايا العديدة التي تتساقط ألوفا في سبيل الإشادة بمقدرته و عزمه و كفايته، و ربما كان قراقوش فوق ذلك تطبعه ألوان من القسوة و النزق و السذاجة، و هي عادة مما يقترن بصفات هذا الصنف من الرجال الذين يجمعون بين القوة و الصرامة والعزم.

ابتدع الناس هذه الصورة المثيرة لقراقوش ولصقت به منذ عصره، ثم تناقلتها الأجيال، و زادت عليها ما شاء الخيال الشعبي الخصب، فأضحى قراقوش و قد غمره سيل الأساطير، و استبدلت شخصيته التاريخية العظيمة، بتلك الشخصية القاتمة الزائفة، التي ما زالت تلاحقه و تغلب عليه حتى عصرنا.-انتهى كلامه رحمه الله-

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير