قال: أيُّها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوُّ أمامكم، وليس لكم - والله - إلا الصدق والصبر، واعلموا أنَّكم في هذه الجزيرة أضيَعُ منَ الأيتام، في مأدُبَة اللئام، وقد استقبلكم عدوُّكم بِجَيشِه وأسلحتِه، وأقواتُهُ موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سُيوفكم، ولا أقوات إلاَّ ما تستخْلِصونه من أيدي عدوِّكم، وإن امتَدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينَتُه الحصينة، وإن انتهاز الفُرْصَة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإنّي لم أحذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوة، ولا حملتكم على خُطة أرخصُ متاع فيها النفوسُ (إلاَّ وأنا) [4] ( http://www.alukah.net/articles/1/4776.aspx#_ftn4) أبدأ بنفسي، واعلموا أنَّكم إن صَبرتم على الأشق قليلاً، استمعتم بالأرْفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حَظّكم فيه بأوفى من حظي، [وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ منَ الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمَرْجان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان]، وقدِ انتخبكم الوليد بن عبدالملك أميرُ المؤمنين منَ الأبطال عُزْبانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانا، ثقةً منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفُرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مَغْنَمُها خالصًا لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدَّارين، واعلموا أني أوّل مجيبٍ إلى ما دعوتكم إليه، وأنّي عند مُلْتَقى الجمعين حاملٌ بنفسي على طاغية القوم "لذريق" فقاتِلهُ - إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنَّهم بعده يُخْذَلون" [5] ( http://www.alukah.net/articles/1/4776.aspx#_ftn5).
- شرح غريب ألفاظ الخطبة:
-الوزر: الملجأ والمكان الذي تحتمون به، والمراد هنا السلاح.
- ذهبت ريحكم: أي انتهت قوّتكم، ذَهاب الريح كِناية عن زَوال القوة والغَلَبة والضَّعف والتَّفَرُّق.
- المناجزة: سرعة المُقَاتلة والاشتباك.
- نجوة: منجاة؛ أي إنني معكم في هذا الأمر الخطير.
- العقيان: الذهب.
- عزبان: جمع أعزب وعازب أي الذي لم يتزوج.
- أصهار: جمع صهر، القريب وزوج بنت الرجل أو أخته.
- أختان: جمع ختن، وهو أبو امرأتك أو أخوها. فالأحماء من قبل الزوج، والأختان من قبل الزوجة، والأصهار تجمعهما.
- خصائص الخطبة:
تَتَمَيَّز خصائص خطبة طارق بن زياد المشهورة في فتح الأندلس - وهي من النَّثر الأدبي السائد في خطب العصر الأموي بصورة عامة - بالميل إلى الإيجاز، دون مقدّمات طويلة، أو ألقاب عديدة، ثم عناية بالعبارة المُرَكزة ذات الأداء المباشر دون تلوين أو زخرف.
- أقسام الخطبة ومضمونِها:
تخلو هذه الخطبة من أيّ شكل من أشكال المقدمات - كما ذكرنا آنفًا، إذ يتناول طارق الموضوع مباشرة، ويشتمل على ثلاثة مقاطع متتالية تكوّن فيما بينها وحدة في الموضوع (الحث والتحريض على الجهاد).
المقطع الأول: الترهيب: ويبدأ بـ (أيُّها الناس، أين المفر؟ .. ) وينتهي بـ (إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي).
وقد وجّه فيه طارق الخطاب إلى أصحابه، ورسم لهم صورة عامَّة للظروف التي هم فيها، مما يفرض عليهم الصمود والثبات لمُجَابَهة العدو، وقد اعتمد في ذلك على المقابلة بين وضعيتهم ووضعيَّة أعدائهم، فالمسلمون مُحَاطون بالبحر الذي خلفوه وراءهم، وبالعدو الذي يزحف نحوهم، وقد شبّههم في وضعهم هذا بالأيتام الضائعين في مأدبَة اللئام، ولقد لجأ في خطبته إلى العقل أوّلاً دون العاطفة عندما وضع جنوده في الإطار الحقيقي بعد إحراق سفنه، وحين يسيطر العقل على العاطفة في الخطبة تغيبُ الصور عن السَّاحة، ويتوقف الخيال عن التّدخل ... فحديث العقل هامسٌ هادئ، أمَّا حديث العاطفة فحديث قارعٌ ضاجٌّ يستثيرُ النّوازع البدائية في النفوس؛ كما تستثيرها
¥