والسلبيات التي ذكرها سليمة إلا أنه فاته -في كلامه هذا على الأقل - أن لهذه الظاهرة فائدة جليلة عظيمة، وهي أن الله حفظ لنا بها كتبا كثيرة كُتب عليها الضياع فلم تصلنا، ولولا هذه الكتب المُجمِّعَة -مع تميزها في أسلوب التناول ومنهج العرض- لضاع من علومنا الكثير الكثير. فلله الحمد والمنة وجزى الله علمائنا عنا خيرا، فما قصّروا رحمهم الله، وإن جانبهم الصواب -أحيانًا- كسائر البشر.
يقول صديقه الدكتور محمود الطناحي -رحمه الله - في مقدمة كتابه " الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=33485&highlight=%22%C7%E1%E3%E6%CC%D2+%E3%D1%C7%CC%DA+%C 7%E1%CA%D1%C7%CC%E3%22)" :
وقد يسايرك بعضهم، آخذاً بالنصفة والبراءة، قائلاً: نقف عند القرون الخمسة الأولى؛ لأنها قرون الإبداع والخلق (). فقل له: إن الخالفين من القرون اللاحقة قد أضافوا إلى ميراث تلك القرون السابقة إضافات صالحة، كشفت عن خبيئة، بل إنهم قد استخرجوا من علم الأوائل علماً آخر، مصبوغاً بصبغتهم، موسوماً بسمتهم، ملبياً حاجات عصرهم، مفجرا طاقات عظيمة من هذا العقل العربي، الذي ما فتىء يغلي ويموج، كالبحر الهادر () ..... ثم يقول:
وإن القرن العاشر قد شهد الحافظ المؤرخ الحجة شمس الدين السخاوى، والحافظ المفسر النحوي، الجامع للفنون والمعارف جلال الدين السيوطي، ولا تقل: إنه جماع، فقد حفظ لنا في تصانيفه التي بلغت نحو ستمائة مصنف (600) كثيراً مما عدت عليه عوادى الناس والأيام ()، من علوم الأوائل وفنونها، واستخرج من كل ذلك علماً عرف به ونسب إليه ..... ثم يقول:
ثم أعود مرة أخرى إلى قضية " أن كتب التراث يغني بعضها عن بعض" وقد شغلتني هذه القضية، وعشت مخدوعاً بها زماناً، حتى ظهر لي زيفها وبطلانها، بشواهد ومثل كثيرة، وبخاصة في كتب التراجم، ومصنفات اللغة. واكتفى بعرض مثال واحد من كتب اللغة (وذكره) ...... ثم يقول:
إن علماءنا الأوائل، رحمهم الله ورضي عنهم، لم يكونوا يعبثون حين يتوفرون على الفن الواحد، من فنون التراث، فيكثرون فيه التأليف والتصنيف، ويدخل الخالف منهم على السالف.
ونعم، قد تجمع بعضهم جامعة المنزع والمنهج العام، ولكن يبقى لكل منهم مذاقه ومشربه، كالذي تراه من اجتماع أبي جعفر الطبري، وعماد الدين بن كثير، على تفسير القرآن الكريم بالمأثور، وافتراقهما في أسلوب التناول ومنهج العرض.
ولم يكن النحاة يعانون من الفراغ، أو قلة الزاد، حين عكفوا على كتاب مثل "الجمل" لأبي القاسم الزجاجي، فوضعوا له مائة وعشرين شرحاً ().
ومن الغريب حقاًَ إننا ل نجد باساً أن يكثر الدارسون المحدثون من التأليف في الفن الواحد، كتباً ذاهبة في الكثرة والسعة، كالذي تراه من التأليف في فنون الشعر والقصة والمسرح، ثم نحجر على أسلافنا، ونعيب عليهم من ذلك، ثم ننعتهم بالثرثرة والدوران حول أنفسهم! ولكنها آفة الذين يلتمسون المعابة لأسلافهم بالظن الخادع، والوهم الكذوب.
وإنه الحق أن بعض ما تركه الأوائل، منتزع من جهود سابقة، وتعد إضافته إلى الفن إضافة محدودة، ولكن مثل ذلك معروف مسطور، ومدلول عليه أيضاً بكلام الأوائل أنفسهم ....
وأحب أن أشير إلى أن هذه المختصرات التي تشغل حيزاً كبيراًَ من التأليف العربي، قد تجدُ فيها ما لست تجده في الأصول. ومن ذلك – وهو كثير – كتاب " مختار الأغاني في الأخبار والتهاني" لابن منظور صاحب " اللسان " ....
ومن حديث المختصرات ما لاحظته، أنا وأخي الدكتور عبد الفتاح الحلو، في أثناء ملنا في تحقيق طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين ابن السبكى: أن الطبقات للمؤلف قد اشتملت على فوئد لم ترد في الطبقات الكبرى، بل إن فيها من التراجم ما لم يذكر أصلاً في الطبقات الكبرى ().
وكتاب تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، فيه من التقييد والضبط، ما لست تجده في أصله: تهذيب التهذيب، للمؤلف نفسه، وقد احسن ناشرو تهذيب التهذيب، في دائرة المعارف العثمانية، بالهند، حين أنزلوا هذا الضبط والتقييد في حواشي الكتاب.
¥