وقال تعالى: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] (الإسراء: 36).
[24] ومن تتبع آثاره المكتوبة والمسموعة رحمه الله علم مبلغ تعظيمه للنصوص، ودقة لزومه لدلالتها.
4 - الاستدلال بالعقل مع النقل، واستعمال الأقيسة الصحيحة ما أمكن: كان رحمه الله يرتب الأدلة في إثبات المسائل العقدية مبتدئاً بالكتاب، مثنِّياً بالسنة الصحيحة، مثلِّثاً بالعقل فيما كان للعقل فيه مساغ، ليكون أبلغ في طمأنينة القلب بتوافر الأدلة، وموافقة المعقول للمنقول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا؛ فمن عرف قول الرسول صلى الله عليه وسلم ومراده كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول، وكذلك (العقليات الصريحة) إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن إلا حقاً، لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم» [25].
وقد استدل شيخنا رحمه الله بالعقل في العديد من المسائل العقدية كإثبات وجود الله، وإبطال الشرك، وإثبات البعث، والرد على من احتج بالقدر على ترك الطاعات وفعل المحرمات، وإثبات اتصاف الله بصفات الكمال من حيث الجملة، وسائر الصفات سوى الخبرية المحضة كالعلم والقدرة والإرادة والعلو ونحوها، تبعاً للنقل لا استقلالاً.
كما استعمل الأقيسة العقلية الصحيحة التي استعملها السلف المتقدمون كعثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله وغيره مثل: «قياس الأوْلى»، «نفي الصفة إثبات لنقيضها»، وإلزام المخالفين باللوازم الباطلة، وكل ذلك مبثوث في كتبه لا يخلو منه مقام.
وأما ما ليس للعقل فيه مدخل كالاستقلال بإثبات الأسماء والصفات، وحكاية الغيبيات، وكيفيات الصفات، فإنه رحمه الله يلجم فيه عنان العقل والفكر، كما ذكر في القاعدة الخامسة من قواعد الأسماء: «أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها: وعلى هذا: فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء؛ فوجب الوقوف في ذلك على النص، ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على ما جاء به النص» [26]، وقال مثل ذلك في القاعدة السابعة من قواعد الصفات [27].
وكان رحمه الله يزجر عن الأسئلة الفاسدة المبنية على لوثة التكييف العقلي، كمن يستشكل إثبات النزول الإلهي إلى سماء الدنيا ثلث الليل الآخر مع دوام دوران الليل على الكرة الأرضية؟ فيقول في معرض إجابته: «وهذا وإن كان الذهن قد لا يتصوره بالنسبة إلى نزول المخلوق، لكن نزول الله تعالى ليس كنزول خلقه حتى يقاس به، ويجعل ما كان مستحيلاً بالنسبة إلى المخلوق مستحيلاً بالنسبة إلى الخالق» [28]، وقال أيضاً: «يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ (لم؟) و (كيف؟) فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير في الكيفية» [29].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الرسول لا يجوز عليه أن يخالف شيئاً من الحق، ولا يخبر بما تحيله العقول وتنفيه، لكن يخبر بما تعجز العقول عن معرفته، فيخبر بمحارات العقول، لا بمحالات العقول» [30]، وقال أيضاً: «الرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه» [31].
5 - تقريب المعاني، واجتناب ما يؤدي إلى اللبس: قد تقدم في بيان جهوده رحمه الله في بيان العقيدة اعتماده طريقة التلخيص والتقريب لطائفة من المتون العقدية الصعبة، ليسهل تصورها وإدراك معانيها، وقد وُفِّق رحمه الله في ذلك توفيقاً عظيماً، وليس مراده بالتلخيص كما يظن بعض الناس مجرد الاختصار، وإنما إعادة عرض الموضوع بما يحصل به البيان وإن استدعى الشرح والإضافة أحياناً [32]، وهذا ما فعله رحمه الله حين صنع لتلك الكتب من التراجم والعنوانات والتعريفات والتقسيمات والإضافات ما جعلها كالعروس المجلاة، فهو مثلاً يدرج في تلخيص الحموية
¥