تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويذكر الذهبي من مآثره تأثره بمواعظ الصالحين فيقول: وعظه ابن السماك فأبكاه، ووعظه الفضيل بن عياض حتى شهق في بكائه. وروى له أبو معاوية الضرير حديثا عن رسول اللّه في فضائل الجهاد فبكى حتى انتحب .. ثم يقول: "إنه حج غير مرة وله فتوحات ومواقف مشهودة، ومنها فتحه مدينة هرقلة، ومات غازيا بخرسان عام 193 هـ" وفي مكان آخر من (السيِر) يحصر الذهبي حجات الرشيد بخمس، ويقول إنه أدى إحداها ماشيا من بطن مكة. ويؤكد ما اشتهر عنه من سخاء ويستشهد لذلك ببعض الوقائع منها هبته للأصمعي خمسة آلاف دينار، ولأبي بكر بن عياش ستة آلاف دينار ولابن عيينة مائة ألف درهم، وهذان من كبار المحدثين.

ولا يغفل الذهبي موضوع اللهو الذي ينسب إلى الرشيد فيشير إليه بقوله (وله أخبار شائعة في اللهو واللذة والغناء) وعن علاقته بالشرب ينقل عن الإمام ابن حزم قوله (أراه كان يشرب النبيذ المختلف فيه لا الخمر المتفق على تحريمها) ولنتأمل قليلا في كل من العبارتين.

ففي الأولى ترى الذهبي يورد خبره مرسلا لا يفيد اليقين بل لا يتجاوز حدود الشائعات، ولعله إنما نقله مما كتبه بعض القُصاص ولم يبذل أي جهد في تحقيقه.

وأما خبر ابن حزم عن الشرب فقد كفانا تعقيبه عليه بما يرجح أنه من النوع غير المحرم .. ومعلوم أن بعض فقهاء العراق أيامئذ كان يقول بإباحة النبيذ، ولعل مرادهم بالمباح منه منقوع التمر والزبيب ونحوهما قبل حصول التخمر، ومن هذا النوع ماكان يُحضَّر لرسول الله صلي اللّه عليه و سلّم فيشرب منه ما لم يتغير طعمه، فإذا بدأ بالتغير عافه .. أما المتخمر فلا خلاف بين العلماء على تحريمه، كثيره وقليله. وفق الحكم النبوي "كل مسكر حرام".

وعلى هذا فمجاهرة الرشيد بشربه تكون من قبيل الإعلان بأنه مع المبيحين لتعاطيه، وإلا فإن توقيره لمقام النبوة أشهر من أن يذكر، وحسبنا من شواهده ذلك الموقف الذي يسجله الأصفهاني نفسه للرشيد حين سمع أحد جلسائه من الأشراف يعقب على حديث نبوي بكلمة غير مناسبة، فإذا هو يتفجر غضبا ويدعو بالنطع والسيف، ولولا شفاعة بعض الحضور بتخريجه كلمةَ الشريف على وجه مقبول لذهب دمه مع الريح ..

ويبقى أن نلقي نظرة تحليلية على كلا الخبرين تذكِّر القارئ بواقع لا ينبغي أن نغفله عندما نطالع بعض الكتب المؤلفة عن مجون ذلك العصر، وما أكثر تلك المراجع التي صنفها القُصاص فشحنوها بما صح وجُرح دون أن يأبهوا بقرب ذلك أو بعده من الحقيقة، إذ كانت همتهم في الغالب منصرفة إلى التنافس في إيراد الغرائب ليستكثروا من قرائها ورواتها، وليحققوا لأنفسهم المكاسب التي يلتمسونها بالوصول إلى مجالس الكبار، ومن أمثلة ذلك ما يرويه الأصفهاني نفسه عن أحد هذه الكتب الموسوم بـ (الأغاني الكبير) منسوبا إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي وفيه يقول حماد بن إسحاق: (ما ألف أبي هذا الكتاب قطّ ولا رآه، ويؤكد ذلك أن أكثر أشعاره المنسوبة إنما جُمعت لما ذكر معها من الأخبار وما يجيء فيها إلى وقتنا هذا) ومعنى ذلك أن كاتب الخبر يسمعه فيَروقه فيخلطه بالإضافات المناسبة فلا يلبث أن يشتهر بذهن الناس وفي كتب الرواة على أنه نسيج واحد، كما يفعل القاص يقع على كلمة مؤثرة فيحوك بها وحولها قصة فنية نستمتع بقراءتها دون أن نبحث عن حقيقتها ..

وما أكثر الأسباب التي تساعد على هذا الاتجاه في ظل الترف وغضارة الحياة.

شهادات حق:

وحسب القارئ في ما أوردناه حتى الآن من هذه الملابسات ما يقنعه بوجوب الحذر من كل ما يرويه المشبوهون عن شخصية الرشيد، فكيف إذا مضينا في استعراض ما تبقى من شهادة الإمام الذهبي عن مواهبه الكثيرة من (الشجاعة والبصر بأعباء الحلافة – مما نسميه اليوم بالحذق السياسي والدبلوماسي – وإذن فلن تتردد في تزييف الكثير مما يطالعك به ذلك الشعوبي المريب. وكيف تتوقف في ذلك وأنت أنىّ نظرت من حياته الحافلة ألفيت الشواهد الناطقة بهذه الحقيقة، من خلال ملاحمه مع الروم وملاحقته المتمردين في كل جانب من دولته المنتشرة في أرجاء الأرض، وفي تتبعه لمسالك عماله ومعالجة أوضاعهم ومجتمعاتهم، مما يجعله في مقدمة رجال الدول .. ولعمر الله قلما أجد مدحا يوجه إلى عظيم أكثر انطباقا على شخصية ممدوحه من قول أشجع السلمي في تصوير شخصية الرشيد:

وعلى عدوك يابن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظلامُ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير