يقول الله عزَّ وجل (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) معذرة؛ أقل الأحوال براءة ذمتك، أنت قُمت بما أوجب الله عليك؛ وقد يدفع الله سبحانه وتعالى بهذا الإنكار ولو كان ضعيفاًَ ما يدفع من ضرائب التواطؤ على السكوت، وليس الأمر خاصاًَ برجال الحِسبة؛ نعم عليهم المسؤولية الأولى والكبرى لإنهم تضاعف عليهم الأمر بتكليفهم من قِبَل الله عزَّ وجل ثم بتكليفهم من قِبَل ولي الأمر وبأخذهم الأجرة على ذلك؛ ولكن هذا لا يُعفي غيرهم من الإنكار؛ فالكُلُّ مكلَّف بالأمر والنهي.
روى الإمام أحمد في مسنده بسندٍِ لا بأس به من حديث عدي بن عُميرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ الله لا يعذِّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله العامة والخاصة " ما دام الإنكار موجوداًَ فالأمان بإذن الله موجود؛ ولا ننكر أنَّ هناك فئة مُكلَّفة من قِبل ولي الأمر بالأمر والنهي وتقوم بما أوجب الله عليها لكنها أقل من المستوى المطلوب في مقاومة ما يزُجُّ به العدو من منكرات غزت البيوت والمحافل والمجتمعات؛ فالمسألة تحتاج إلى تضافر جهود في إنكار المنكر باليد وهذا لولي الأمر أو من خوَّله ولي الأمر؛ وباللسان بالحكمة والكلمة الطيبة؛ بالرفق واللين، وبهذا يرفع الله سبحانه وتعالى عنَّا ما كُتب على غيرنا من الأمم.
سنة إلهية (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) إذا عمَّت المعاصي وكثُرت واستمرأها الخاص والعام وعاشوا عليها؛ تواطؤا على السكوت عن إنكارها عمَّهم الله بعذاب؛ بالعقوبة، والنبي عليه الصلاة والسلام حذَّر من الفتن، والله سبحانه وتعالى حذَّر (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) فعلينا أن نتَّقي الفتن بدفعها بالأسباب التي تدفعها؛ ومن أعظم ما يدفع الفتن: اهتمام الإنسان بصلاح نفسه أولاًَ ومن تحت يده والارتباط بالله عزَّ وجل وصدق اللجأ إليه مع بذل الأسباب في إصلاح الغير.
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (حدثنا علي بن عبد الله) الإمام المعروف ابن المديني.
(نافع بن عمر) بن عبد الله القرشي.
(ابن أبي مليكة) اسمه: عبد الله.
(أسماء) بنت أبي بكر.
قوله (أنا على حوضي) الحوض المورود الذي ينبُع أو يجتمع من نهر الكوثر؛ هذا للنبي عليه الصلاة والسلام، وجاء وصفُه في السنة في طوله وعرضه ولونه وآنيته وأنه يشرب منه المُتَّبع من هذه الأمة، ولذا يُذاد عنه من تقهقر فارتدَّ أو ابتدع أو غيَّر أو بدَّل، وأحاديث الحوض متواترة؛ ثبت الحوض ثبوتاًَ قطعياًَ بالأدلة المتواترة تواتراًَ معنوياًَ.
قوله (أنا على حوضي أنتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني فأقول أمتي) يعرفهم النبي عليه الصلاة والسلام إما بأعيانهم لمُعاصرتهم له أو بأوصافهم باتباعه عليه الصلاة والسلام؛ وإنْ حصل منهم ما يوجب ردَّهم من إحداثٍِ وابتداع.
قوله (فيقال لا تدري مشوا على القهقرى) يعني: رجعوا إلى الخلف؛ كانوا لمَّا كُنت بين أظهُرهم يتقدَّمون إلى الأمام بفعل ما يُرضي الله عزَّ وجل وترك ما يُسخطه ثم بعدك رجعوا القهقرى فارتدُّوا عن دينهم؛ وهؤلاء ممن يعرفهم النبي عليه الصلاة والسلام بأعيانهم لأنهم وجدوا في عصره.
قوله (قال ابن أبي مليكة اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن) على الإنسان أن يخاف والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن؛ فلا يأمن من مثل هذه الفتنة أن يرجع القهقرى (وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ولذل اشتدَّ خوف السلف من سوء العاقبة؛ سوء الخاتمة أمرٌ مُقلق ومخيف (وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينه إلا ذراع – إلا شيء يسير – ثم يسبق عليه الكتاب – لأنه كتب عليه الشقاوة – فيعمل بعمل أهل النار – بطوعه واختياره لا إجباراًَ له – فيدخل النار).
وجاء في الحديث (أنه يعمل بعمل أهل الحنة فيما يبدو للناس) وهذا أيضاًَ أمرٌ مُخيف، قد يعمل الإنسان الأعمال وهي في ظاهرها صالحة لكنها فيما يبدو للناس وفي قلبه دخَل يكون سبباًَ في صرفه عن الجادة (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) كثير من السلف يعمل الأعمال الصالحة ويخشى أن تكون من هذا الباب، فالخوف مطلوب كما أن الرجاء مطلوب وإحسان الظن بالله عزَّ وجل، فعلى الإنسان أن يكون بين الأمرين خائفاًَ راجياًَ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة) يؤتون ما آتوا من الأعمال الصالحة؛ ولذا لمَّا سألت عائشة رضي الله عنها النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: هم الذين يزنون هم الذين يسرقون؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يا ابنة الصدِّيق؛ هؤلاء هم الذين يصلون ويصومون ويزكُّون ويعملون الأعمال الصالحة وقلوبهم وجلة خائفة أن تُرد عليهم، فالإنسان لا يضمن، نعم جاء ما يدُلُّ على أن الفواتح عنوان الخواتم لكن من يضمن أن هذه الفواتح الصالحة خالصة لوجه الله عزَّ وجل، النفس الأمَّارة والشيطان والنية شرود تحتاج إلى من يُتابعها في كُلِّ وقت؛ قد يزِل الإنسان بكلمة من سخط الله عزَّ وجل يهوي بها في النار سبعين خريفاًَ لا يُلقي لها بالاًَ؛ تكون من سخط الله.
قوله (قال ابن أبي مليكة اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن) أي عن ديننا فنرجع القهقرى عمَّا كُنَّا نفعله من أعمالٍِ صالحة.
يتبع بإن الله بقية الشرح ...
¥