تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قلتُ: فمن آثر الراحة و الدعةَ في مقام الجدّ و النصَب، فقد خالف الصواب، و غَفَل عمّا أريد منه، و ما أنيط به، و لو كان في البعد عن الجدّ و الجَهد في الطاعة بدون مرخّصٍ شرعيٍ مندوحةٌٌٌ لغير ذوي الأعذار، لما قال تعالى لخير خلقه، و أحبّهم إليه: (فإِذا فَرَغْتَ فانْصَبْ) [الانشراح: 7].

رابعاً: ما ورد في التحذير و التنفير من التشديد و التعسير و المشاقّة و التنطّع، و التعمّق - و ما إلى ذلك - على النفس و الغير، لا يدلُّ على التخيير (أو التخيُّر) في الأحكام الشرعيّة، لدلالة النصوص على التكليف بالأشدّ في مواضع كثيرة، و لأنّ النسخ بالأشد ممّا جاءت به الشريعة بالاتفاق، فضلاً عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطّع و نحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع، كالوصال في الصيام، فهو ممّا نُهي عنه، و إن كان مقدوراً عليه بدون مشقّة، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمّن وجَبَ عليه حتى و إن ثبتت مشقّته، ما دام مقدوراً عليه، و قد تقدّم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أنّ الأصل في التكليف، أنّه قائمٌ على المشقّة المقدور عليها.

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: (التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب، و لا مستحب، بمنزلة الواجب و المستحب في العبادات، و تارةً باتخاذ ما ليس بمُحرَّم، و لا مكروه، بمنزلة المحرم و المكروه في الطيبات، و عُلِّل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى، شَدَّد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، و في هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لِمِثْل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة، و إن كان كثير من عُبَّادِنا قد وقعوا في بعض ذلك، متأولين معذورين، أو غير متأولين و لا معذورين) [اقتضاء الصراط: 1/ 103].

و قال ابن القيّم رحمه الله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين، و ذلك بالزيادة على المشروع، و أخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقدر، و إمَّا بالشَرْع؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، و بالقدر كفعل أهل الوسواس، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم، فشُدِّدَ عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، و صار صفةً لازمة لهم) [إغاثة اللهفان: 1/ 132].

و لا يقال: إنّ أحكام الشريعة تتدرّجُ من الأشدّ إلى الأيسَر، و لا من الأيسر إلى الأشد، باضطراد، لأنّها اشتملت على الأمرين معاً، و هذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول، و الأمثلة عليها كثيرة من الكتاب و السنّة، و من استقرأها وقفَ على حقيقةٍ مفادها أنّ التدرّج من الأيسر إلى الأشدّ هو الغالب في النَسخ، و هو ما يصلحُ دليلاً على نقيض ما ذهَب إليه دعاة التيسير، و مؤصّلوه في هذا الزمان.

لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدّم ذِكره من إيجاب الصيام على كلّ مكلّّف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه.

و نحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرّج من الأيسر إلى الأشد، حيث كان مباحاً على الأصل، ثمّ نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على رُبُوِّ إثمه على نفعه، ثمَّ حرّم أثناء الصلاة خاصّة، ثمّ نزل تحريمه في الكتاب، و حدُّ شاربه في السنّة.

و كذلك الحال في تشديد حدّ الزنا من الإيذاء باللسان و اليد، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً، ثمّ الجلد للبكر (و التغريب في بعض المذاهب)، و الرجم للمحصن.

و نحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أوّل الأمر، ثمّ الإذن فيه، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة.

و الأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرّج في التشريع من الأيسر إلى الأشدّ كثيرة، و لو أردنا تتبُّعَها، وذِكرَ أدلّتها و ما يتفرّع عنها من مسائل و أحكام، لطال بنا المقام، قبل أن نصير إلى التمام (1) ( http://saaid.net/Doat/Najeeb/8.htm#(1)) .

و هذا يدلّ على نقيض ما تذرّع به الميسِّرون، يسَّر الله لنا و لهم سُبُلَ الهدى، و وقانا مضلات الهوى و موارد الردى.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير