فإذا أضيف إليه ما قرّرناه آنِفاً، من بُطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير، ظهر لنا الحق الصريح، و هو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح، و وجوب الردّ إلى الله تعالى و رسوله على وجه التسليم و القبول، و الله أعلَم و أحكَم.
المقصِِِد الثاني
أقوال السلف في اختيار أيسَر المذاهب
تذرّع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف و الأئمة المتّبعين بإحسان، من استحباب الأخذ بالرُخص.
و من ذلك، قول قتادة رحمه الله: (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) [انظره في: تحفة المولود، ص: 8].
و قول سفيان الثوري رحمه الله: (إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد) [آداب الفتوى للنووي، ص: 37].
و قول شيخ الإسلام ابن تيميّة: (إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك) [مجموع الفتاوى: 7/ 48].
و قول ابن القيّم: (الرخص في العبادات أفضل من الشدائد) [شرح العمدة: 2/ 541].
و قول الكمال بن الهمّام في التحرير: (إنّ المقلّد له أن يقلّد من يشاء، و إن أخذ العاميّ في كلّ مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل.
و كون الإنسان يتتبّع ما هو الأخفّ عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمّه عليه، و كان صلى الله عليه وسلّم يحبّ ما خفّف عن أمّته).
و قول الشاطبي: (المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، و لا يميل إلى طرف الانحلال، و الدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف، الحملُ على التوسط من غير إفراطٍ و لا تفريطٍ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، و لذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين) [الموافقات: 4/ 285].
إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به، أو غاب عنهم فأغفلوه.
و لو تأمّلنا ما أوردناه (و لا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة، فيقول: (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم)، و لا يقول: رخِّصوا باستحسانكم، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم.
و ابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام، و ليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة، و إن ضَعُفَت حُجّته، و وَهت شُبهته.
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات، و هذا لا خلاف فيه، خلافاً لدُعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام، و نفي الكراهة عن المكروه، و شتّان ما بين المذهبين.
و ما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب، أو تحليل المحرّم، و لكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه، لا ليُسقِطه عنه، و ذلك كثيراً ما يَقَع في باب الكفّارات، و أداء النذور و نحوها.
و ما روي عن ابن عيينة، قال به غيره، و لكنّهم تحوّطوا في ضبط صوَره بالتمثيل له.
قال النووي: (و أما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها , لتخليصٍ من ورطة يمينٍ و نحوها , فذلك حسن جميل، و عليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان: إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد) [آداب الفتوى للنووي، ص: 37].
و ننبّه هنا إلى أنّ ما رويَ عن السلف الصالح، في الحث على التمسّك بالعزائم، و التحذير من الترخّص المجرّد عن الدليل، أضعاف ما روي عنهم في التيسير و الترخيص، و العدل أن يُجمَع بين أقوالهم، لا أن يُسقَط بعضها، أو يُضرَبَ بعضُها ببَعضٍ.
¥