تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

و ربّما اتّضحت الصورة أكثر إذا قرّبناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا رَجَعنا إلى سيَرِهِم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد و التيسير على النفس و الغير، و من أبرز تلك المعالم:

أوّلاً: تشديد العالم على نفسه أكثر ممّا يشدد على غيره.

و لهذا المَعلَم ما يشهد له من السنّة، حيث أرشَد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه معاذ بنَ جبل رضي الله عنه، حين أمرَه بالإيجاز إذا أمَّ الناسَ في الصلاة، و يقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذاً، كما في الصحيحين و غيرهما.

ثانياً: عُرِف عن السلف الصالح، من الصحابةِ الكرام و من بَعدَهُم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه، و هذا خلاف ما عليه ميسِّرة العصر، من التيسير فيما كثُر وقوع الناس فيه.

و من ذلك قول عمر الفاروق رضي الله عنه: (فلو أمضيناه عليهم) حينما حكمَ بإيقاع طلاق المجلس ثلاثاً، و أمضاه على الناس، لأنّهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة.

و كذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصنّاع، بعد أن فسدت الذمم و تغيرت النفوس.

ألا ترى أنّ عمرَ و عليَّ رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين، استحساناً، رغم وجود ما يراه الميسِّرون المعاصرون مقتضياً للتيسير، و مستلزماً للتخفيف مراعاةً ظروف المجتمع، و رفعاً للحَرَج عن الناس.

ثالثاً: أنّ من السلف من كان يفتي بالفتوى، أو يقضي بالقضاء، ثمّ يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلاً و أقوَم سبيلاً، إذ إنّ العبرة عنهم بما جاء من عند الله، و ثبت عن رسول الله، و ليس بالتيسير أو التشديد.

أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجُل: رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس: من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك له، فقال: أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال: ? وَ أَتِمُّوُا الحَجَّ و العُمْرَةَ لله ? [البقرة: 196]، و أن تأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي).

و الأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحقّ كثيرة، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرزَ السابقين، و ينحو نحوَهُم، فيقف عند الدليل، و يرجع إليه إن بلغه، و لو بعد حين، و لا يجد غضاضةً في أن يقول: (تلك على ما قضينا، و هذه على ما نقضي)؟

رابعاً: كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيثُ دارَ، فمنهم الميسِّر و منهم المشدد، و لكن عن علم و بصيرة و دليل.

و كلُّهُم مِنْ رسولِ اللهِ مُقْتَبِسٌ ... غرفاً مِنَ البَحرِ أو رَشْفاً مِنَ الدِيَمِ

و إن كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر، و لكنّ الحامل لكلٍّ منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبيِّ الهُدى صلى الله عليه وسلم.

و يحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان: عبد الله بن عبّاس، و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فقد كان (أحدهما يميل إلى التشديد و الآخر إلى الترخيص و ذلك في غير مسألة، و عبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك، و كان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد، و كان يمنع من دخول الحمام، و كان إذا دخله اغتسل منه، و ابن عباس كان يدخل الحمام، و كان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربةٍ للوجه، و ضربةٍ لليدين إلى المرفقين، و لا يقتصر على ضربة واحدة، و لا على الكفين، و كان ابن عباس يخالفه، و يقول: التيمم ضربةٌ للوجه، و الكفين، و كان ابن عمر يتوضأ من قُبلةِ امرأتِه، و يُفتي بذلك، و كان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، و كان ابن عباس يقول: ما أبالي قبَّلتُها أو شممت ريحاناً، و كان يأمر من ذكر أن عليه صلاة و هو في أخرى أن يُتِمَّها، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها ... و المقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد و الاحتياط) [زاد

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير