تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فضيلة الشيخ: قد يشكو كثير من طلاب العلم عند إقبالهم على طلبه من وجود المضايقات والهموم والمعوقات؛ ولذلك يشعر البعض بانقطاعه عن العبادة وإقباله على العلم فهل من توجيه تزيل به هذا الإشكال. وجزاكم الله خيرا؟

الجواب:

بسم الله. الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فإن الله ابتلى عبده المؤمن في هذه الدنيا، فهو من غم إلى غم، ومن همّ إلى همّ، ومن كرب إلى كرب، حتى يقف على آخر أعتاب هذه الدنيا، وقد رفعت درجته، وعظمت عند الله منزلته، وكُفّرت ذنوبه وخطاياه، فكم من مهموم مغموم خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وكم من مهموم مغموم رفعت له درجاته في الفردوس من رضوان الله عز وجل عليه.

هذه الدنيا دار ابتلاء، ودار مشقة وعناء، وهي دار الدناءة، يرفع فيها الوضيع، ويوضع فيها الرفيع، ويكرم فيها الفاجر، ويهان فيها البر، ويؤذى فيها ولي الله، فلم يجعلها الله لأوليائه، ولا جعلها لأصفيائه، ولا جعلها لأحبابه؛ إذ يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر فيها شربة ماء)).

فجعلها الله ابتلاء لأوليائه، تضيق عليهم بشدائدها، وتؤذيهم بفتنها ومحنها، ولا يزال العبد الصابر المؤمن قد وجه وجهه إلى ربه، وأسلم قلبه لخالقه، متوكلا على الله، مفوضا أمره إلى الله، لسان حاله ومقاله: حسبنا الله، قد استكفى بالله، فنعم المولى ونعم النصير.

هل قرأت في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، هل رأيته بأبي وأمي -صلوات الله وسلامه عليه- منذ أن أكرم بالرسالة، فقد صُبّت عليه البلايا، وأهين في طاعة الله ومرضات الله، ورأى شدائد الدنيا وأهوالها، وكان كل ذلك كان فيه عليه الصلاة والسلام أصدق ما يكون إيمانا، وأثبت ما يكون جنانا، وأوضح ما يكون سبيلا ومنهجا وحجة وبرهانا، لم يضعف عليه الصلاة والسلام في طاعة ربه، ولم يجبن ولم يخف، فما كان عليه الصلاة والسلام إلا ثابت الجنان، سديد اللسان، موفقا من العظيم الرحمن -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه-، حتى رأى بأم عينيه عمه مجندلا على الأرض قد بقرت بطنه، وسالت دماؤه، وقُطعت أشلاؤه، ورأى عليه الصلاة والسلام من الشدائد والمصائب حتى فقد البنات وفقد البنين -عليه الصلاة والسلام- وما زاده ذلك إلا حبا لله ورضوانا عن الله، وما تأمل مسلم ذلك كله فرأى سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في جميع شؤونه وأحواله إلا وجده من كرب إلى كرب، ومن خَطْب إلى خَطْب، إن دخل إلى بيته رأى الابتلاء من ربه، وإن خرج إلى الناس ابتلي في نفسه وفي أصحابه وفي أحبابه؛ كل ذلك حكمة من الله سبحانه وتعالى حتى وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا، وقد دنت ساعة الفراق، فصاحت بنته: واكرب أباه! فقال -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه-: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم)).

الكرب في هذه الدنيا سنة من الله للأولياء والأتقياء والصلحاء، تعضهم الدنيا فيهان ويذل ويضيق عليهم في أمورهم فلا يزيدهم ذلك إلا ثباتا ويقينا وصدقا.

نعم إنها الفتن والمحن التي تظهر بر البر وفجور الفاجر، تظهر صدق الصادقين، وثبات الموقنين، ورباط المرابطين، فتن تشع بها أنوار الإيمان في قلوب الموقنين المحسنين -جعلنا الله وإياكم منهم برحمته وهو أرحم الراحمين-.

أخي في الله أعظم نعمة من الله على العبد أن يفوض أمره إلى الله، وأن يكون عنده اليقين أن أزمّة الأمور كلها بيد الله، وأن الأمر كله لله، وأن الله يغلب ولا يغلب، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وأن الدنيا بقضها وقضيضها وكثيرها وقليلها لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن كل ما يرى من فجور الفجار واعتداء الأشرار على الأخيار وتسلطهم على الصفوة الأبرار، وما يرى هو في طلبه العلم من ضيق الحال وسوء الحال كله ينتهي به إلى رحمة ذي العزة والجلال.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير