عن شيء يشكك في مصادرها، ويشكك في كيفية التلقي، ولذلك تجدهم تارة يتعقبون النصوص، وتارة يتعقبون طرق الاستدلال بالنصوص، ويأتون إلى أقوال أئمة جهابذة؛ لأن المراد أنه إذا حصل عند المسلم شكا في هذا الشيء المعروف في سيره وفي الأخبار وفي التاريخ فحينئذ يضع علامة الاستفهام على كل ما يرد في التاريخ، ومعناه أن تاريخه مشبوه، ولذلك تجد بعض المتأخرين وللأسف يقول: ينبغي أن نحقق التاريخ وأن نفعل بالتاريخ، هؤلاء دواوين العلم وأئمة العلم. يقول الإمام أحمد: كنا إذا أتينا إلى التاريخ تسامحنا، ولم يكونوا يطبقون عليه التشديد كما يطبق على الرواية إلا إذا تضمن التاريخ حكما شرعيا فحينئذ ينبغي تبيينه.
فالشاهد من هذا أنه ليست القضية التشكيك في القصة ولكن القضية العبث بالمصادر التاريخية وحينئذ تجد كثيرا من الناشئة التي نشأت في هذا الزمان لا تماثل ولا عشر معشار ما كان عليه الأولون من تمسكهم بأئمتهم وبكتب المصادر التاريخية واحترامهم وتوقيرهم وتقديرهم لهذه المصادر، ومن هنا كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يكره هذا الذي من الإغراق في تتبع القصص في السير والإغراق فيها وتطبيق الصنعة الحديثية حتى أصبح الواحد لما يقرأها فإذا وجد في كتاب تاريخ احتقر هذا الكتاب، ووجد أن هذا المحقق قد أخرجها سندها معضل أو منقطعة ثم لا ينظر إلى مقصد العلماء من إيرادها كعبرة، والمراد بها نوع من التأسي ونوع من التأثر، وليس المراد بها حكما شرعيا.
فالمقصود من هذا أن هذا الوادي هو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل، وأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر، فقد قصدوا بيته الحرام، وما قصد جبار هذا البيت إلا قصمه جبار السماوات والأرض، ولذلك لما جاء هذا الطاغية الآثم وجاء أصحاب الفيل واكتسحوا كل من وقف في وجوههم من قبائل العرب -العرب فرادى وجماعات- وما وقف أحد أمامهم إلا أبادوه والقصة معروفة.
فالشاهد من هذا أنهم لما بلغوا هذا الموضع بالمغمس حسر الله الفيل، ومنعه من المضي، ثم أرسل الله عليهم عذابه، فأرسل عليهم طيرا أبابيل وهو نوع من الطيور، وقيل: هو نوع من الطيور لم يوجد إلا في ذلك الوقت، وذكر بعض العلماء أنه نوع من العصافير الصغيرة ولا يزال بعض بقاياها بمكة، وهو شديد الإزعاج، شديد الصرير، وكان يلقط كل واحد منهم حجرا فيرميه على الرجل من رأسه فيخترمه إلى أسفله فيخرّ ميتا في مكانه؛ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}.
{كذلك أخذ ربك} ليس إذا أخذ الأفراد ولا الجماعات ولا القرية ولا المدينة {إذا أخذ القرى} {وهي ظالمة} والحال أنها ظالمة. {إن} بالتوكيد {أخذه أليم شديد} وإذا قال الله: أليم فهو الأليم، وإذا قال الله شديد: فهو شديد.
فالشاهد أن الله حسر الفيل في هذا الموضع وامتنع الفيل من المضي ثم أرسل الله عليه العذاب، فهذا الموضع موضع عذاب، فلما كان موضع عذاب وبلغه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضرب دابته وأسرع، وهذه سنته في مواضع العذاب أنها لا تزار ولا ينزل فيها، فلا تزار إلا بقصد الاعتبار مرورا إذا مرّ بها دون قصد على تفصيل عند بعض العلماء - رحمهم الله -، ولذلك لما مر بديار ثمود كما في الصحيح في العلا ضرب دابته وأسرع عليه الصلاة والسلام وغطى رأسه حتى قال بعض العلماء كأنه يقول: إني مصدق بعذابهم ولو لم تر عيني، وهذا من أكمل ما يكون من التوحيد والإسلام لله عز وجل. فمواضع العذاب قال: ((لا تمروها إلا وأنتم باكون أو متباكون لا يصيبكم ما أصابهم))، فلا يشرع زيارتها والجلوس فيها إلا على هذه الصفة إذا مر بها باكيا أو متباكيا متأثرا، وجعل العلماء –رحمهم الله - ذلك أصلا، فلما مر النبي 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - بوادي محسر ضرب دابته وأسرع؛ لأنه موضع عذاب، فلا ينزل فيه.
قال رحمه الله: [حتى يَأْتَي مِنى]: وهي مشعر؛ سميت منى لكثرة ما يمنى ويراق فيها من الدماء، وقيل: لكثرة الناس إذا اجتمعوا فيها، وقيل: لكثرة الخير، وما يكون فيها من عطاء الله عز وجل لعباده.
ومنى: واد فسيح ما بين جمرة العقبة ووادي محسر، واختلف في جمرة العقبة: هل هي منى أو ليست من منى؟ على قولين، والصحيح أنها ليست من منى، وعليه فلا يسامت الجمرة وإنما يكون قبل الجمرة، وهذا هو الذي عليه الجمهور – رحمهم الله -.
وبناء على ذلك العقبة لا تعتبر من منى، وأمر عمر بن الخطاب 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - الناس أن يتحولوا فيها إلى داخل منى كما جاء عنه 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فكان يبعث الرجال فيخرجون من نزل وراء جمرة العقبة، ويأمر من نزل وراء جمرة العقبة أن يدخل إلى منى.
وأما من جهة وادي محسر فقد قلنا ضفة الوادي مما يلي منى هي نهاية منى، وهذا الوادي ما بين الجبلين: ثبير والصانع. ويقال: الصائح، والقابل بعضهم يسميه، هذان الجبلان ما أقبل منهما فهو من منى، وما أدبر فليس من منى، وبطون الجبال وسفوحها كلها من منى، وتعتبر من بات بها فقد بات بمنى، وذكرت بعض المنشورات أن مساحة منى بهذا القدر تقارب ستة ملايين متر مربع وهي مساحة كبيرة جدا، هذا الوادي كله يعتبر منى.
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ الإخوة الكرام: نعلم ما في البيت من كسرٍ عروضي , وليس محل الشاهد من البيتين مكسوراً فعوه.!
¥