والدليل على ذلك: أن الله يقرن الواجب وغير الواجب، كما قال-?-: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فإن الله قرن الأكل بأداء الزكاة، فدل على أنه قد يقرن الواجب بغير الواجب، ثم إن هذه الدلالة في الآية محل نظر، وذلك أن الله-تعالى- قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ففي قراءة والعمرة لله على العطف وهناك قراءة علىالاستئناف {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وعلى هذه القراءة لا يستقيم الاستدلال.
وكذلك - أيضاً - استدلوا بالسُّنة، وذلك لما ثبت في حديث أبي رزين العُقيلي-?- أنه سأل النبي-?-: عن أبيه الذي أدركته فريضة الحج وهو لا يستطيع أن يحج ولا أن يعتمر ولا أن يسافر، قال: إنه لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الضعن فقال-?-: ((حج عن أبيك واعتمر)) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وكذلك الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وصححه غير واحد من الأئمة، قالوا: إن هذا الحديث أمر فيه النبي-?- أبا رزين أن يعتمر عن أبيه، فدل على أن العمرة واجبة.
واستدلوا - أيضاً - بحديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- وذلك أنها سألت النبي-?- هل على النساء جهاد؟ قال-عليه الصلاة والسلام-: ((عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)) فقوله: ((عليهن))، أي: يلزمهن، كقوله-تعالى-: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم} أي: إلزموها، فهذه الصيغة، صيغة إلزام وصيغة الإلزام تدل على الوجوب، وبناءً عليه فإن هذا الحديث يدل على وجوب العمرة، وبناءً على ذلك قالوا: إن العمرة واجبة.
وهذا القول - أعني القول بوجوب العمرة - وهو أصح القولين والعلم عند الله وذلك لقوة دلالة الأدلة التي استدلوا بها، وأما الآية فدلالتها ضعيفة، وهي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}؛ ولكن الأقوى حديثي أبي رزين وحديث أم المؤمنين عائشة.
وكيف نجيب عن دليل القائلين بالسُّنة؟
الجواب عن ذلك: من وجوه أقواها ما أختاره شيخ الإسلام-رحمه الله- من أن الحج ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: حج أكبر.
والقسم الثاني: حج أصغر.
وهذا هو الذي دله عليه القرآن في قوله-?-: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} فهناك حج أكبر وهو الحج المعروف، وهناك حج أصغر وهو العمرة، فلما قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يشمل الحج الأكبر والأصغر، وكذلك ماورد من الأحاديث في قوله: ((وأن تحج البيت)) فإنه يشمل حج البيت الأكبر والأصغر، لأنه مطلق فيشمل الاثنين وهذا هو أنسب الوجوه؛ لأن الله وصف الحج بكونه أكبر وأصغر، وكذلك - أيضاً - أجيب أن سكوت الأدلة عن ذكر هذه الفرائض في العزائم
والأركان لا يدل على عدم وجوبها، وكان وجوبها شرع متأخرة، وهذا الوجه يختاره بعض الأئمة-رحمهم الله-، وبناءً على ذلك فإنه يترجح قول القائل بوجوب العمرة.
إذا ثبت أن الحج فريضة والعمرة واجبة فيرد السؤال: هل هذا الوجوب وهذه الفريضة عامة أو خاصة.
أما بالنسبة للحج فهو واجب على من استطاع وفريضة على من يستطيع عموما بالشروط التي سنذكرها.
أما العمرة فللعلماء الذين قالوا بوجوبها وفرضيتها مسلكان:
الأول: منهم من يقول: العمرة واجبة على الجميع، دون فرق بين أهل مكة وغيرهم.
الثاني: ومنهم من يقول: هي واجبة على غير أهل مكة، أما أهل مكة فلا تجب عليهم العمرة.
وهذا طبعاً التفصيل أو الخلاف عند من يقول بفرضية العمرة، فمنهم من يرى فرضيتها على الجميع، ومنهم من يرى فرضيتها على غير المكي، والصحيح فرضيتها على الجميع، وذلك لأنه لم يدل دليل على استثناء المكي وأخراجه من هذا العموم.
¥