وأما بالنسبة لقوله: [الحج والعمرة واجبتان] على المستطيع هذا الشروع الذي بدأه المصنف في هذا الباب، أعني - كتاب المناسك - إنما هو في بيان حكم هذه العبادة، وهذه الفرضية وهذا الوجوب مقيد بشروط بدليل قوله-?-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقال: {حِجُّ} في قراءة {حَج البيت من استطاع إليه سبيلا}، ((وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً)) فقيد هذا الوجوب وهذا اللزوم بالاستطاعة، ولذلك قال العلماء: إن هذه الفرضية تتفيد بشروط وهي التي سيعتني المصنف-رحمه الله- بذكرها.
[الحج والعمرة واجبان على المسلم الحر]: واجبان على المسلم، أما الكافر فلا يجب عليه أن يحج ولا يجب عليه أن يعتمر حتى يحقق أصل الإسلام، من التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله-?-، ثم بعد ذلك يخاطب بفروع الإسلام.
أما الدليل على أن الكافر لا يحج ولا يعتمر فلأن الله-?- قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وقوله-?-: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فهذا يدل على أنه لا يجوز دخول المشرك والكافر إلى مكة، ويشمل ذلك الحج والعمرة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي-?- أنه بعث علياً-?- ينادي بنداءه: ((أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان))، ولذلك قالوا: لا يدخل الكافر الحج ولا العمرة ومنع المشركون من الحج والعمرة بعد نزول هذه الآية الكريمة.
[على المسلم الحر]: يجب الحج والعمرة على الحر، أما الرقيق فلا يجب عليه حج ولا تجب عليه عمرة؛ لأن الله قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} والرقيق ليس عنده مال، فشرط الاستطاعة ليس بمتوفر ولا بمتحقق فيه.
والدليل على أن الرقيق لا يملك: في حديث ابن عمر الذي ذكرناه في كتاب الزكاة وبينا أن الشرع أخلى يد العبد عن الملكية وإذا خلت يده عن ملكية المال، فإنه لا يتحقق فيه شرط الوجوب، فلا يخاطب بالحج حتى يعتق ولا يخاطب بالعمرة حتى يعتق، لكن لو حج العبد وأذن له سيده بالحج أو أذن له بالعمرة فحج أو اعتمر فحجه صحيح وعمرته صحيحة.
وخالف الظاهرية-رحمة الله عليهم- جمهور العلماء فقالوا: إن العبد يطالب بالحج لعموم الأدلة.
ولكن يجاب عنهم بأن هذا العموم مقيد بشروط، وذلك في قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} والاستطاعة تشمل الاستطاعة المالية، والعبد لا يملك المال فلا يتوجه عليه الخطاب بوجوب الحج، لكن لو حج بإذن سيده وأذن له سيده، فلا إشكال.
وقوله: [على الحر]: مفهومه أن العبد لا يجب عليه، ويشمل ذلك العبد الذي هو متمحض الرق، كامل الرق، والعبد المبعض الذي بعضه حر وبعضه عبد، فلا يطالب بالحج وذلك لوجود حق السيد فيه وإذا ازدحم الحقان حق المخلوق، وحق الخالق، فإنه تقدم حقوق العباد لوجود المشاحة فيها.
[المكلف]: المكلف والمراد بذلك شرطاً التكليف، البلوغ والعقل، والمكلف مأخوذ من الكلفة والمشقة؛ والسبب في ذلك، أن شرائع الإسلام فيها مشقة مقدور عليها، وأما المشقة غير المقدور عليها فلا يكلف الله بها، فإذا كان الشرع فيه مشقة وكلفة، ظهر المطيع من العاصي، ولذلك حفت الجنة بالمكاره حتى يظهر من يمتثل أمر الله، ومن يتركه، والتكليف شرطه العقل والبلوغ
وَكُلُّ تَكْلِيْف بِشَرطِ الَعقْلْ مَعَ البُلوغِ بَدمٍ أَوْ حَمْلْ
فلا يحكم بكون الإنسان مكلف بشرائع الإسلام إلا إذا كان عاقل فالمجنون لا يكلف ولا يجب عليه الحج، وهل إذا حج المجنون وأحرم عنه وليه يصح حجه؟
للعلماء وجهان:
الوجه الأول: من أهل العلم من قال: إن النبي-?- لما سئل فج الروحاء، وسألته المرأة وقد رفعت صبي لها فقالت: ألهذا حج، قال: نعم ولك أجر، قالوا: والصبي في حكم المجنون، والمجنون في حكم الصبي كل منهما فاقد للحلم والعقل، فقالوا: كما صحح النبي-?- حج الصبي نصحح أيضاً حج المجنون، وبناءً على ذلك إذا أحرم عنه وليه واستقامت له أركان الحج وشرائط صحته حكمنا باعتبار حجه وصحته.
¥