وأخرجه ابن خزيمة وإسحاق بن راهوية من طريق ابن إسحاق: حدثنا عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن عمه نافع بن جبير عن أبيه قال: " كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة، ويقولون نحن الحمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة".
وهذا يدل على أن المزدلفة هي منطقة الحرم إلى نهاية حدود الحرم مما يلي عرفات فتأمل قول جبير بن مطعم "كانت قريش تدفع من المزدلفة ويقولون لا نخرج من الحرم".
ويؤيد هذا أن الله تعالى شرع الأنساك: الحج والعمرة ومن تشريعه أنه لابد في كل من الحج والعمرة والجمع بين الحل والحرم.
- فمن جاء معتمراً من خارج مكة أحرم من الميقات ليدخل الحرم محرماً.
- حتى من أراد العمرة ممن هو داخل مكة لزمه الخروج إلى الحلِّ خارج حدود الحرم فيحرم ويدخل الحرم محرماً كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عائشة في عمرتها من التنعيم.
- وكذلك الحج فإن الحجيج يحرمون جميعاً ويقضون يوم الثامن بمنى ويبيتون بمنى ليلة التاسع ثم يخرجون يوم التاسع إلى عرفات وهي من الحل خارج حدود الحرم ثم يدخلون بعد الإفاضة المشعر الحرام محرمين ليجمعوا بين الحل والحرم.
وإن مما ابتدعه المشركون من قريش قبل الإسلام أن زعموا أنهم أهل الحرم فلا يخرجون منه يوم التاسع وإنما يقفون بالمشعر الحرام. فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف بعرفة كما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:" وكان العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري، فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام. لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه. ويكون منزله ثم، فأجاز ولم يعرض له. حتى أتى عرفات فنزل".
ثانياً: الآثار عن التابعين:
1 - عطاء بن أبي رباح رحمه الله:
أ – عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟ قال: المزدلفة إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر.
قال: ليس المأزمان مأزماً عرفه من مزدلفة ولكن مفضاهما ... قال عطاء: فإذا أفضت من مأزمي عرفة فأنزل في كل ذلك عن يمين وشمال وأين شئت ...
قلت: أفرأيت عن اعتزلت منازل الناس وذهبت في الجرف الذي عن يمين المقبل من عرفة لست أقرب أحداً؟ قال: لا أكره ذلك.
ب – عن حبيب بن أبي ثابت قال: قيل لعطاء: يعني في الموقف بجمع. فقال: ما فوق بطن محسر. قيل إلى قزح؟ قال: وما وراء ذلك هو المشعر الحرام.
هذان نصان مهمان من هذا الإمام التابعي الجليل مفتي الحرم بمكة في زمنه.
ففي النص الأول بين حدود المزدلفة من الشرق مما يلي عرفات إلى الغرب مما يلي منى. فحدها من مأزمي عرفة شرقاً إلى مُحسر. والسؤال ما المراد بمأزمي عرفة؟
يظن كثير من الناس وحتى بعض الباحثين أن المأزمين المراد بهما جبلان إثنان. وغرهم في ذلك تثنية الكلمة وقالوا إنهما الجبلان اللذان يسميان الآن الأخشبان تثنية الأخشب. وأنا أعتبر أن هذا الظن هو سبب تضييق حدود مزدلفة بما هي عليه الآن، ولذلك لزم توضيح هذه القضية فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: المأزمان ليس المراد بهما جبلان أصلاً لا ما يسمى بالأخشبين ولا غيرهما.
وإنما المأزم في اللغة هو المضيق بين شيئين إما بين جبلين أو بين عدوتي واد، وإنما ثنى لفظاً فقط لوقوعه بين شيئين.
هذا هو الحق وهذا ما نص عليه علماء اللغة ودونك البيان:
في لسان العرب:" والمأزم: المضيق مثل المأزل قاله الأصمعي وأنشد شاهداً لذلك قول أبي مهدية:
هذا طريقٌ يأزم المآزما وعضوات تمشُقٌ اللهازما
والمأزم كل طريق ضيق بين جبلين.
ومنه قول ساعدة بن جوؤية الهذلي:
ومقامهن إذا حُبسن بمأزم ضيق ألف وصدهن الأخشب
أقسم بالبدن التي حبسن بمأزم أي بمضيق.
والمأزم: مضيق الوادي في حزونة.
فثبت بهذا أن المأزم المضيق إما بين جبلين أو بين عدوتي وادٍ فمضيق الوادي يسمى مأزم وربام ثني لفظاً لمكان العدوتين فقيل: المأزمان.
وفي اللسان أيضاً: " ومنه سُمي الموضع الذي بين المشعر وعرفة مأزمين. قال الأصمعي: المأزم في سند مضيقٌ بين جمع وعرفة".
فهذا نص صاحب لسان العرب ونقله عن علامة العرب وديوان الأدب الإمام عبد الملك بن قريب الأصمعي: أن المأزمين إنما هو مضيق فاصل بين جمع وهي المزدلفة وعرفة. وقد عرفنا أن هذا المضيق الفاصل إنما هو وادي عرنة لا غير كما مر في كلام الصحابة السابق.
¥