تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولكن جمهور أهل العلم أن المراد بالناس بهم النافرون من الحج؛ لقول ابن عباس: كان الناس ينفرون من كل وجه ولا ينفر أحد في وقت الحج إلا من كان حاجا، ه?ذا هو الغالب.

وقوله: (آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ) وفي رواية لأبي داوود ((آخر عهدهم بالبيت الطواف)) وتفسر ه?ذه الرواية معنى الآخرية هنا، وهي أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، وقد يقال: إنه وإن لم ترد ه?ذه الرواية فإن المراد الطواف؛ لأن الذي يختص بالبيت من الأعمال هو الطواف، لو قال قائل: آخر عهدهم بالبيت الصلاة، قلنا: الصلاة لا تختص بالبيت، وإلا لقال بالمسجد مثلا لما قال البيت وقد علم أنه لا يختص به إلا الطواف، فه?ذه قرينة على أن المراد هنا الطواف.

ولهذا قيل: إن بعض الملوك نذر أن يتعبد لله عبادة لا يشركه فيها أحد من الناس أبدا، كيف تصور قال: لله علي نذر أن أفعل عبادة لا يشاركني فيها أحد من الناس حين فعله.

نقول: الصلاة ما يمكن، لأنه ممكن أحد يصلي في ذلك الوقت.

الصيام ما يمكن، الصدقة ما يمكن.

فسألوا العلماء، فقال بعض أهل العلم قال لهم: أفرغوا له المطاف واجعلوه يطوف وحده، حينئذ لا يشاركه أحد، يكون قد وفّى بنذره.

أقول: إن قوله: (آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ) حتى ولو لم ترد رواية أبي داوود المصرِّحة فإنه يتعين بالقرينة أن يكون المراد الطواف.

هنا يقول: (إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ)، (خُفِّفَ) يعني خفف الأمر عن الحائض، والحائض معروفة.

وهل مثلها النفساء؟ فيها خلاف، فابن حزم يرى أن النفساء لا يمتنع عنها الطواف، وقد مر علينا في أول كتاب الحج وجه استدلاله؛ ولكن الجمهور يرون أن النفساء كالحائض لا تطوف بالبيت، ويجيبون عن ه?ذا الحديث بأنه من باب التغليب، والقيد إذا كان أغلبيا لا يكون له مفهوم.

يستفاد من ه?ذا الحديث عدة فوائد:

أولا وجوب طواف الوداع على الحاج لقوله: (أُمِرَ اَلنَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ)، وه?ذا قاله النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ في حجة الوداع.

لو قال قائل: قد يكون الأمر هنا للاستحباب قلنا لا يصح لوجهين:

الوجه الأول أن الأصل في الأمر الوجوب إلا بدليل.

الوجه الثاني أنه قال: (خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ) والتخفيف لا يقال غلا في مقابل الإلزام إذ لو كان ألمر هنا استحبابا لم يكن هناك فرق بين الحائض وغير الحائض لأنه مخفف عن الجميع، إذ أن المستحب لا يلزم به الإنسان.

فإن قلت: وهل يجب ذلك في العمرة؟

فالجواب أن ه?ذا محل خلاف بين العلماء:

ومنهم من قال: إنه يجب الطواف للعمرة كما يجب للحج، واستدل لذلك بأنّ العمرة حج أصغر، كما قال النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وبأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ليحيى بن أمية: ((اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك))، وه?ذا عام ويخرج منه ما لا يفعل في العمرة بالإجماع، مثل الطواف والمبيت والرّمي والوقوف، وطواف الإفاضة؛ بل نقول: الطواف ما يخرج لأن العمرة فيها طواف.

أيضا قالوا: إن المعتمر دخل البيت بتحية ولا يخرج منه -من باب القياس- إلا بتحية.

رابعا أن ه?ذا أحوط، أن الطواف أحوط؛ لأنك إن طفت لم يقل أحد: لم طفت؟ وإن لم تطف، قال لك الموجبون: لماذا لا تطوف؟ وما كان أحوط فهو أولى لقول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، ولكن مع ه?ذا ليس وجوبه في العمرة كوجوبه في الحج من أجل الخلاف فقط، وإلا فالأدلّة تدل على الوجوب.

ومن فوائد ه?ذا الحديث، أنه يجب أن يكون الوداع آخر عهد الإنسان لقوله: (آخِرَ عَهْدِهِمْ)؛ ولكن إذا بقي الإنسان بعد الطواف للصلاة أو اشترى حاجة في طريقه أو تغدّى أو تعشى أو ما أشبه ذلك من الأشياء الخفيفة فإن ه?ذا لا يضر؛ لأنه سبق لنا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الفجر بعد طواف الوادع، فه?ذه المسائل اليسيرة لا تضر إلا إذا كان المقصود به الاتجار؛ يعني أنه اشترى شيئا للتجارة فإن العلماء يقولون: إذا اشترى شيئا للتجارة فعليه أن يعيد الطواف.

ومن فوائد الحديث سقوط طواف الوداع عن الحائض، لقوله: (إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ)، الحائض لا يجب عليها الطواف لعذر شرعي أو حسي؟ شرعي، أما حسي فقد تكون قادرة، فهل يلحق العذر الشرعي العذر الحسي كما لو كان الإنسان مريضا؟

فالجواب: لا، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم سلمة لما قالت إنها مريضة قال: ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة فلم يسقطه عنها للمرض)) فمادام ه?ذا الإنسان عاجزا، نقول: يحمل؛ لكن لو فُرض أنه لا يمكن حمله؛ يعني مرض مرضا مُدنفا، فهنا قد نقول بالسقوط؛ لأن ه?ذا عذر لا يمكن معه الفعل كالحيض، بخلاف العذر الذي يمكن معه الفعل كالمرض الخفيف الذي يمكن أن يحمل الإنسان فهـ?ذا لا يسقط.

ومن فوائد الحديث تحريم جلوس الحائض في المسجد؛ لأن العلة من منع الحائض من الطواف المكث في المسجد، والطواف مكث، فلا يحل لها أن تمكث في المسجد حتى ولو للدرس أو الموعظة أو ما أشبه ذلك، ولهذا أمر النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ للنساء أن يخرجن لصلاة العيد وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى.

ومن فوائد الحديث رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى? بعباده حيث خَفف عن الحائض فلم يلزمها أن تبقى كما تبقى المرأة التي لم تطف طواف الإفاضة؛ بل تستمر في سفرها ولا عليها شيء.

أدلتهم يقولون: إن الرسول قاله في الحج، ونحن نقول: نعم هو قاله في الحج؛ لكن لأن أصل إيجابه لم يكن إلا في ذلك اليوم.

قالوا: ولأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر ولم يطف. فنقول: كان ذلك قبل إيجابه؛ لأنه لم يجب إلا في حجة الوداع، وكم من أشياء تأخر وجوبها ووجبت بعد.

.. ه?ذا ليس دليلا؛ بل هو دليل لما ترجم له البخاري رحمه الله أن المعتمر إذا خرج فإنه لا يحتاج إلى طواف الوادع يكفيه طواف الوداع لأنه طاف قريبا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير