الثاني: ذهب بعض الحنفية إلى أن تعلُّق الأحكام بالأعيان على سبيل المجاز لا الحقيقة، ونسب هذا القولَ ابنُ أمير الحاج إلى الأكثر من الحنفية، قال في "التقرير والتحبير" (1/ 164): "ثم هنا بحث آخر، وهو أن هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي، فإن كان ذاك الفعل حرامًا لغيره، وهو ما لا يكون منشأ حرمته عين ذلك المحل؛ كحرمة أكل مال الغير، فإنها ليست لنفس المال؛ بل لكونه مِلك الغير، فالأكل منه محرَّم، والمحل قابل له حلالاً، بأن يأكله مالكُه، أو يُؤكِله غيرَه، فهو استعمال مجازي، إما مِن إطلاق اسم المحل على الحال، أو من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وإن كان ذاك الفعل حرامًا لعينه، وهو ما يكون منشأ حرمته عين ذلك المحل؛ كحرمة أكل الميتة، وشرب الخمر، فالأكثر أنه مجاز أيضًا كالأول، وقال شيخنا المصنف - رحمه الله تعالى -: وينبغي كونه على قولهم مجازًا عقليًّا؛ إذ لم يتجوز في لفظ "حُرِّمت"، ولا في لفظ "الخمر".اهـ.
وهذا ما ذهب إليه الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة؛ لأن التكليف لا يتعلق بالأعيان، وإنما يتعلق بالأفعال؛ فالأعيان ليست محلاًّ للتكليف، بخلاف الأفعال، فيكون قوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] من باب الحذف؛ بقرينة دلالة العقل: أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان، والمعنى: حُرِّم عليكم نكاحُ أمهاتكم.
قال ابن رشيق المالكي في "لباب المحصول في علم الأصول" (1/ 248): "ذات المأمور لا يتعلق بها الخطاب، وإنما يتعلق الطلب بالفعل".اهـ.
وقد سبق نقلُ مثلِ هذا عن الغزالي - رحمه الله - كما في "المستصفى".
وقال الزركشي في "البحر المحيط": "تنبيه: [تعلق الأحكام] عُلِم من تعريف الحكم بالتعلُّق بفعل المكلَّف أن الأحكام لا تتعلق بالأعيان، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في باب المُجمَل أن نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}، أنه من باب الحذف؛ بقرينة دلالة العقل أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان، ولكن هذا ليس متفقًا عليه، فقد ذهب جَمْعٌ من الحنفية إلى أن الحكم يتعلق بالعين كما يتعلق بالفعل، ومعنى حرمة العينِ خروجُها من أن تكون محلاًّ للفعل شرعًا، كما أن حرمة الفعل خروجٌ من الأعيان شرعًا".اهـ.
وقال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير": "التحريم إنما يتعلق بفعل المكلف، فإذا أضيف إلى عين من الأعيان، يُقدَّر الفعلُ المقصود منه، ففي المأكولات: يقدر الأكل، وفي المشروبات: الشرب، وفي الملبوسات: اللبس، وفي الموطوءات: الوطء، فإذا أُطلِق أحدُ هذه الألفاظ سَبَقَ المعنى المراد إلى الفهم من غير توقُّف".اهـ.
الثالث: ذهب بعض الحنفية أيضًا - كما نقله التفتازاني في "التلويح" عن صاحب "الأسرار" وقال: "هو الأقرب" - إلى أن الحل والحرمة معًا، إذا كان لمعنًى في العين أُضيف إليها؛ لأنها نسبة، كما يقال: جرى الميزاب، فيقال: حرمت الميتة; لأن تحريمها لمعنًى فيها, ولا يُقال: حرمت شاة الغير; لأن حرمتها لاحترام المالك لا لمعنى فيها.
أما إذا كان الحل والحرمة ليسا لمعنًى في العين لم يُضف إليها، وإنما يُضاف إلى الفعل.
فتحصَّل في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وقد ذكرها التَّفْتازاني برمَّتها في "التلويح على التوضيح"، كما نصَّ عليها غيرُه مفرقةً في مواضع.
والراجح - والله تعالى أعلم - هو قول الجمهور، الذين ذهبوا إلى امتناع تعلُّق الأحكام بالأعيان؛ لأن الأعيان ليست محلاًّ للتكليف، بخلاف الأفعال؛ ولأن الذين ذهبوا إلى أن الأحكام تتعلَّق بالأعيان، انتهى قولُهم إلى أن الممنوع هو الفعل، فاتَّفق الفريقان على أن العين لا تفعل واجبًا، ولا تترك محرمًا، وإنما يصدر الفعل والترك من المكلَّف، ولا يتحقق الامتثال للأمر إلا بذلك، وأن مجرد وجود العين المحرَّمة لا يفيد حكمًا شرعيًّا، فلا يستفاد الحكم الشرعي لها إلا بعد تكليف القادر على الامتثال من المكلفين.
كما أن تعريف الحكم الشرعي عند جمهور الأصوليين هو: خطاب الشارع المتعلِّق بأفعال المكلَّفين، اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا.
ويمكنك الرجوع - لاستيفاء هذه المسألة بحثًا - إلى المراجع التالية:
• "كشف الأسرار، شرح أصول البزدوي"، لعلاء الدين عبدالعزيز بن أحمد البخاري (730هـ - 1330م).
• "التلويح على التوضيح"، لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (792هـ).
• "المستصفى في علم الأصول"، لحجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي (505 - 1111م).
• "حاشية العطار على شرح المحلِّي على جمع الجوامع"؛ لحسن بن محمد بن محمود العطار.
• "البحر المحيط"، لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبدالله الشافعي الزركشي (745هـ - 794هـ).
• "شرح الكوكب المنير"، لمحمد بن أحمد بن عبدالعزيز الفتوحي، المعروف بابن النجار الحنبلي (972هـ - 1564 م).