، ثم دخل دمشق بعد غياب أربع سنوات، فاستقبله أهلها استقبالاً فريداً، لم يستقبلوا به أحداً من قبل (44)، ولكن بقاءه فيها لم يطل، إذ مرض مرضاً اشتد به يوماً بعد يوم، وكان ابن شداد والقاضي الفاضل يلازمانه، وفي الليلة الثانية عشرة من مرضه، وهي ليلة الأربعاء 27 من صفر عام 589ه* ازداد ضعفاً، وأسلم في فجرها روحه إلى بارئها، وكان يوماً لم يصب المسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين (45) وبوفاته -رحمه الله -انتهى ابن شداد من جمع أخباره -كما صرح بذلك في نهاية كتابه (46) -وبعدها بزمن بدأ بتبييضها في كتابه هذا.
قصد ابن شداد في كتابه هذا ثلاثة أمور، بيّنها في آخر كتابه، بالإضافة إلى ما بيّنه في أول كتابه، وهي:
- حث الناس على الترحم على صلاح الدين، وأن يجزيه الله ما هو أهله.
- ذكر محاسنه وتخليدها.
- أن يحسن خلفاؤه من بعده الاقتداء به وإكمال ما بدأه (47).
ولعل من المفيد أن نختم بحثنا هذا ببعض الملاحظات، وهي:
- لم يكن ابن شداد مؤرخاً جامداً سلبياً بالنسبة إلى صلاح الدين أو الفرنجة، لأنه كان محباً لصلاح الدين معجباً به جداً، وكارهاً للفرنجة المحتلين.
- لكن هذا الحب والبغض لم يؤثرا في صدقه وإنصافه لأعداء صلاح الدين، ونجد ذلك في مثل تأريخه لانتصار صلاح الدين في ميافيارقين إذ يقول: (فحاصرها وقاتلها قتالاً شديداً، ونصب عليها مجانيق، وكان بها رجل، يقال له الأسد، وما قصر في حفظها، ولكن الأقدار لا تغلب فملكها السلطان) (48). كما يبدو أيضاً في إسناده نصر صلاح الدين إلى الله، ونرى ذلك في مثل قوله (وعصمه الله منهم) و (أدخل في قلوبهم الخوف والرعب) (49).
- ولقد ظهر الحب والكره في لوازم ابن شداد التي كان يكررها، مثل (رحمه الله) (50) و (قدس الله روحه) (51)، بعد ذكر صلاح الدين ونور الدين وغيرهما، وفي تعاطفه مع صلاح الدين ودفاعه عن اجتهاداته، ومثل قوله بعد ذكر الفرنجة أو واحد منهم (خذلهم الله) (52) و (لعنه الله) (53). ولكن هذا لم يمنعه من إنصافهم ووصف شجاعتهم، مثل وصفه لملك الإنكتار (54).
- ومن لوازمه اللافتة للنظر، أنه عندما يذكر مدينة محتلة يتبعها بجملة (يسر الله فتحها) (55)، وعندما يذكر مدينة مهددة يتبعها بجملة (حفظها الله) أو (حرسها الله) (56)، أو بكلمة (المحروسة) (57).
- ومن لوازمه أيضاً إكثاره من ذكر الآيات القرآنية (58)، والأحاديث النبوية الشريفة في أثناء كتابه (59).
- ومن ملاحظاتنا أيضاً دقته، فقد كان يذكر في تاريخه اليوم والشهر والعام (60)، أو الشهر والسنة فقط (61)، وربما ذكر الوقت، صباحاً كان أو مساء، أو بعد صلاة الفجر (62). وهذا يعني أنه كان يسجل الأحداث ويؤرخها يوماً بعد يوم، أو ساعة بعد ساعة. كما تبدو دقته في نقله لعبارات كاملة لصلاح الدين أو لغيره.
- تصويره لبعض العادات والتقاليد لدى الطرفين، مثل وصفه لمجلس العدل الذي كان يجلسه صلاح الدين يومين أسبوعاً ويحضره القضاة والأمراء (63)، ومثل وصفه لبعض تقاليد الفرنج، مثل قوله: (ومن عاداتهم أنهم يتشاورون للحرب على ظهور الخيل، وأنهم قد نصّوا على عشرة أنفس منهم وحكموهم، فأي شيء أشاروا به لا يخالفونهم) (64)، وقوله في وصف علم الفرنجة: (وعلم العدو مرتفع على عجلة هو مغروس فيها، وهي تسحب بالبغال، وهم يذبون عن العلم، وهو عال جداً كالمنارة، خرقته بياض، ملمع بحمرة على شكل صلبان.) (65)، كما أشار أيضاً إلى نشوء صداقات بين بعض أفراد الجيشين العربي والفرنجي (66).
- ونجد في الكتاب أيضاً عدداً من الوثائق الهامة التي توضح العلاقات بين صلاح الدين والدول المجاورة مثل الأرمن والبيزنطيين (67). - لم يوقف صلاح الدين حروبه مع الفرنجة في أثناء مفاوضات الصلح معهم (68)، لأنه كان يعتقد أن القوي في الحرب قوي في مفاوضات الصلح، وأنه كلما حقق مكاسب أكثر، كان موقفه التفاوضي أقوى، وحق فيه مكاسب أعظم.
- لم يوقع صلاح الدين صلح الرملة مع الفرنجة إلا مضطراً، بسبب إلحاح أمرائه وقادته وجنوده الذين ما كانوا يملكون همته وقوته وقدرته على المتابعة وصبره وعزيمته، وأما رأيه في استمرار الجهاد، فقد صرح به بقوله: (والمصلحة ألا نزال على الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت) (69).
¥