لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، وأما هذا فإنه تجاوز حده، فجرى ما جرى (31).
والنص الثاني هو:
"ولقد حكى لي من أثق به أنه لقي بحوران شخصاً واحداً، معه طنب خيمة، فيه نيف وثلاثون أسيراً، يجرهم وحده لخذلان وقع عليهم (32) (أي على الفرنج).
إن انتصار صلاح الدين في حطين لم يجعله يؤثر الراحة والكسل مكتفياً به، وإنما كان له حافزاً، ليتحرك بسرعة، ويحرر قلعة طبرية وعكا وتبنين وبيروت وعسقلان (33)، ممهداً بها لتحرير القدس الذي حررها صلحاً الجمعة السابع والعشرين من رجب عام 583ه*، في ذكرى الإسراء والمعراج، ولقد استبشر الناس بذلك التوافق بين المناسبتين، وكان يوماً مشهوداً.
وخرج الفرنجة من القدس، وبقي أهلها من النصارى فيها لم يمسهم سوء يرحبون بصلاح الدين. دفع أغنياء الفرنجة الفدية، وهي عشرة دنانير على الرجل، وخمسة على المرأة، واثنان على الطفل، وتحمل صلاح الدين دفع فدية فقراء الفرنجة الذين خذلهم ملوكهم وأغنياؤهم وأطلق سراحهم، وكان -حسب اتفاق الصلح -ينبغي أن يعدوا مماليك عبيداً، وأوصل كل من خرج من الفرنجة إلى مأمنهم (34).
ولا بد من أن يعقد الإنسان مقارنة بين تسامح صلاح الدين مع الفرنجة عند تحرير القدس ووحشية الفرنج عندما احتلوها، وما فعلوه من فظائع، تذكرنا بها فظائع اليهود فيها وفي جنين ونابلس وغيرها اليوم.
وسرعان ما غادر صلاح الدين القدس إلى "صور" يريد تحريرها، فحاصرها، إلا أن انتصار الأسطول الفرنجي على أسطوله ودخول الشتاء وتعب الجند وتذمر الأمراء جعله يرجئ ذلك إلى الربيع (35)، وفيه بدأ بحصار حصن كوكب القريب من صور عام 584ه* (36)، وهنا دخل ابن شداد في خدمته، ولقد صرّح ابن شداد أن جميع ما رواه من قبل إنما هو روايته عمن يثق به ممن شاهده، وأن ما سيرويه بعد ذلك مما رآه بعينه عامة (37).
تابع صلاح الدين تحرير البلاد من الفرنجة، حتى لم يبق معهم من المدن المنيعة سوى صور التي صارت مكان تجمعهم وإنطاكية وطرابلس. ولقد تم ذلك خلال عام ونصف (38)، وهي فترة قياسية. وكان سبب هذه الانتصارات المتلاحقة أنه كان قائداً عسكرياً شجاعاً ونبيلاً في آن واحد، وميزته الكبرى -كما يقول د /شاكر مصطفى -كانت بتقاه، ببساطة فكرة، بكرمه، بوفائه بالعهود حتى للأعداء، بمثاليته، وبأنه نموذج خاص من رجال الحرب والسياسة (39).
أجج تحرير القدس نار الحقد في أوربة، فأرسلت الحملة الفرنجية الثالثة يقودها ريتشارد قلب الأسد ملك الإنجليز، وفيليب أوغست ملك فرنسة وفريديريك باربروسا إمبراطور الألمان (40).
وكان من الضروري أن أتابع سيرة صلاح الدين مفصلة، وأتحدث عن صور البطولة النبيلة النادرة إلا أن ضيق المجال يدفعني إلى أن أبلغ سريعاً نهايتها، وهو صلح الرملة عام 588ه* الذي مهدت إليه مفاوضات استمرت خمسة عشر شهراً، قام بها اثنان وأربعون وفداً، كان البادئ في طلبها دوماً ريتشارد. وقد اتفق الطرفان على أن تبقى في يد الفرنجة يافا وقيسارية وأرسوف وحيفا وعكا، وتكون عسقلان خراباً، واللد والرملة مناصفة، وأن تكون بلاد الإسماعيلية في هدنة صلاح الدين، أي معه، وإنطاكية وطرابلس في هدنة الفرنج أي معهم (41)، وحرص صلاح الدين في هذا الصلح على ما يلي:
1 - أن تكون مدته محدودة بثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
2 - أن يحصر الفرنج في أضيق بقعة ممكنة.
3 - أن تبقى الجبال بيده، ليبقى الفرنجة بالأماكن المنخفضة فيكونوا تحت رحمته.
4 - أن ينقذ أكثر ما يمكن إنقاذه من مكاسب حطين.
5 - أن يفتح القدس للحجاج الفرنجة دائماً، بعدما رفض طلب ريتشارد أن يأخذوا موافقته على ذلك، ليريهم السماحة والحرية والحضارة الحقة.
6 - أن يستمر في تقوية حصون القدس وغيرها استعداداً لتحرير كامل الأرض المحتلة بعد انتهاء الهدنة (42).
سعد الجميع بهذا الصلح ما عدا صلاح الدين، لأنه لم يره محققاً ما يصبو إليه من تحرير الأرض كاملة من الاحتلال الفرنجي، لذلك بعد أن اطمأن إلى عودة ريتشارد إلى بلاده أمر بتقوية حصون القدس وغيرها من القلاع (43)
¥